قصَّة عيسى (عليه السلام)
صفحة 1 من اصل 1
قصَّة عيسى (عليه السلام)
قصَّة عيسى (عليه السلام)
تمهيد
قالَ اللّه تعالى:
﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا﴾
﴿يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾
﴿فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾
يمكننا أن نقول بأنّ هذه الشريحة القصصية المتصلة بمريم و عيسى تشكّل القسم الأخير من قصة مريم ، مثلما يمكننا أن نقول بأنّها بداية لقصة جديدة هي قصة عيسى (عليه السلام). و في الحالين ثمة بِناء قصصي يتّسم بجمالية فائقة من حيث كونه يخضع لإمكانية ما يُسمى بالقصة المتداخلة و القصة المستقلّة.
أمّا كونها متداخلة فلأنّ مريم (عليها السلام) لا تزال تلعب دوراً فيها ، هو إتيانها بالمولود إلى قومها ، و محاورتها مع القوم الذين تساءلوا عن غرابة هذه الحادثة ، و إشارتها إلى عيسى (عليه السلام) بأن يكلّموه ...
و أمّا كونها مستقلة فلأنّ عيسى يبدأ بالتحرك من خلال ولادته بطلا لقصة ستحوم على شخصيته فحسب.
هنا ينبغي أن نضيف إلى ما تقدّم ، إلى أنّ هذا البناء القصصي يشع بجمالية جديدة تبعث الدهشة حينما نلحظ عنصر التوازي أو التجانس بين قصتي مريم و عيسى من جانب ، و قصتي زكريا و يحيى من جانب آخر ، ففضلا عن كون زكريا و يحيى يمثّلان بطلين لقصة واحدة أو لقصتين و مشابهتهما مريم و عيسى من حيث كونهما أيضاً بطلين لقصة متداخلة أو لقصتين ، فضلا عن ذلك ، فإنّ كلاّ من زكريا و مريم يجسّد أحد أبوين لبطلي القصتين الاُخريين ، فيحيى (عليه السلام) هو ابن زكريا (عليه السلام). و عيسى (عليه السلام) هو ابن مريم (عليها السلام) ، كلّ ما في الأمر أنّ زكريا هو الأب ، و مريم هي الاُمّ ، و هذا ما يمكن تسميته فنّياً بالتشابه من خلال التضاد ، و بالتضاد من خلال التشابه ...
و الآن ، خارجاً عن هذه الخطوط الهندسية المتجانسة في هيكل القصتين زكريا و يحيى من جانب و مريم و عيسى من جانب آخر ، و في الخطوط التفصيلية لكلّ منهما حيث لحظنا أكثر من عشرة خطوط متجانسة بينهما ... خارجاً عن هذا البناء الهندسي المحكم ، يعنينا الآن أن نتابع حركة القصة الجديدة: قصة عيسى (عليه السلام).
لقد جاءت مريم (عليها السلام) بوليدها إلى القوم ... و كان ردّ الفعل الأول لهذه المواجهة هي تساؤل القوم عن هذا الوليد :
﴿يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء ...﴾
فنّياً ، أي من زاوية البناء الهندسي للنص يجب أن نلحظ أنّ هذا التساؤل يرتبط عمارياً بقلق مريم (عليها السلام) حيال حادثة المخاض حينما هتفت بمرارة:
﴿يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا﴾
إنّ هذا الهتاف يحمل وظيفة فنيّة ، هي انعكاسه على مستقبل الحدث القصصي ، و ها هو الحَدَث القصصي يتمثّل في هذا التساؤل المصحوب بمشاعر الغرابة أو التشكيك من قِبَلِ القوم ، بمعنى أنّ مريم (عليها السلام) كانت على حقّ حينما تمنّت الموت ، نظراً لأنّ طبيعة القوم سوف تثير عملية تشكيك بهذه الحادثة ... و بالفعل تساءل القوم :
﴿ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء ...﴾
إذاً ثمة تنام عضويٍّ لموقف مريم حيال المخاض ، و موقف مجتمعها حيالها ، ممّا يفسّر لنا أهمية هذا البناء العماري للنص.
و الملاحظ أنّ القوم بدأ تساؤلهم بهذه الصيغة:
﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾
هذا يعني أنّ لهذه العبارة: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ وظيفة فنّية ترتبط بعمارة القصة ...
لابدّ أن تتجسّد هذه الوظيفة ـ حسب ما تذكره نصوص التفسير ـ من أنّ هارون سواء أكان أخاها لأبيها ، أو أخا موسى (عليه السلام) لأنّها من ولده ، أو كان أجنبياً عنها إلاّ أنّه عُرِفَ بسمة الصلاح.
أقول: لابدّ أن تتجسّد وظيفة هارون هنا في كونها مرتبطة بمفهوم العفّة أو التقوى المرتبطة بشخصية مريم أيضاً ، و إن كنا نحتمل فنيّاً أن تكون صلة النسب بين هارون و مريم مرجّحةٌ على غيرها من الصِلات التي أشار المفسرون إليها ، لأنّ النسبة الأجنبية لا ترقى فنيّاً من حيث عمارة القصة إلى نسبة القرابة ...
و أيّاً كان ، فإنّ مريم (عليها السلام) أنهت الصراع الذي كانت تحياه حيال هذه الحادثة ،
انهته بإشارتها إلى القوم بأن يكلّموا وليدها ... إلاّ أنّهم أجابوها مندهشين:
﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾
إنّ هذه العبارة أو الموقف ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ ...﴾ تعدّ نهاية لدور البطلة مريم (عليها السلام) ، إلاّ أنّها تجسّد لحظة الإنارة ـ حسب اللغة القصصية ـ للذروة التي بلغتها حوادث القصة ، حيث يتلهّف القارئ لمعرفة ما ستسفر عنه إشارة مريم إلى أن يتكلّم القوم مع الوليد ، و ردّهم عليها بكيفية إمكان التحدّث مع وليد في المهد ...
الحوادث اللاحقة للقصة سوف تنير هذا الجانب كما سنرى. إلاّ أنّ المهم بعد ذلك كلّه ، هو ملاحظة هذه المستويات من التلاحم و التنامي بين القصص من جانب ، و بين أجزاء القصة من جانب آخر ، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
* * *
قالَ اللّه تعالى:
﴿قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا﴾
﴿وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾
﴿وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا﴾
﴿وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾
هذا المقطع القصصي يتناول مقطعاً عَرَضياً من حياة عيسى (عليه السلام). لقد بدأت اُقصوصة عيسى مع ولادته بذلك النحو المعجز ، و ما واكبه من الظروف التي أحاطت بمريم (عليها السلام) ... و عندما يبدأ عيسى بهذا الحوار مع القوم الذين أثاروا التشكيك حيال مريم ، إنّما ينهي الدور الذي لعبته مريم (عليها السلام) في الاُقصوصة السابقة ، اُقصوصة مريم. فيما أشرنا إلى أنّها قد ساورها القلق الشديد حيال ردّ الفعل الذي ستواجهه ، و حيث انتهى القلق تماماً حينما تكلّم عيسى و هو في المهد بهذا النحو الذي رسمه المقطع.
إنّ ما يعنينا الآن من المقطع القصصي ، هو محتوياته الفكرية ثمّ بناؤه الفنّي وصلة هذا البناء بالهيكل العام لقصص زكريا و يحيى و مريم ، ثمّ صلته بالأفكار العامة التي انتظمتها سورة مريم ...
أمّا محتوياته الفكرية فتتمثّل في طرح جملة من الدلالات التي يستهدف النصُّ توصيلها إلى القارئ ، منها:
أنّ عيسى هو عبدٌ للّه تعالى.
و قد يتساءل القارئ: هل أنّ تقدير العبودية ذو صلة بالأفكار اللاحقة في السورة؟
إنّه لكذلك.
إذاً فلنستمع إلى تعقيب النص على اُقصوصة عيسى:
﴿ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾
﴿ما كانَ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَد ...﴾
إلى آخر الآيات التي تحدّثت عن المواقف المنحرفة للنصارى و اليهود و سواهم ممّن قالوا عنه (عليه السلام): إنّه الإبن أو ثالث ثلاثة ...
إذاً استهلال المحاورة من قِبَلِ عيسى بأنّه عبد إنّما ينطوي على وظيفة فنّية لها منعكساتها على الجزء اللاحق من السورة ، هي الردّ على المنحرفين فكرياً ممّن نسبه إلى الربوبية ، أو البُنُوَّة ... إلى آخره.
لكن خارجاً عن ذلك ، ما هي الدلالات الفكرية الاُخرى المطروحة في القصة؟
الدلالات هي:
إتيانه الكتاب ، جعلهُ نبيّاً ، جعله مباركاً ، إيصاؤه بالصلاة و الزكاة ، البرّ بالاُمّ ، عدم جعله جبّاراً شقيّاً ، السلام عليه يوم ولادته و موته و بعثه ...
إنّ جملة من هذه الدلالات قد طرحت في اُقصوصة يحيى (عليه السلام) أيضاً ، و إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ كلاّ من يحيى و عيسى يجسّدان شخصيتين قد وُلِدَتا بنحو معجز: الأوّل من قِبَلِ الكبر و العقم ، و الآخر من دون فحل ، حينئذ يمكننا أن نفسّر دلالة ما طُرح في قصتيهما من الأفكار ...
المطروح هو:
1 ـ إنّ كلاّ منهما قد اُوتي الحُكم و النبوّة في الصغر.
2 ـ إنّ كلاّ منهما قد وُصِفَ بأنّه لم يكن جبّاراً في الأرض.
3 ـ إنّ كلاّ منهما قد وصف بأنّه بارّ بالنسبة لمن وُلِدَ منه: يحيى من حيث البرّ بوالديه ، و عيسى من حيث البرّ بوالدته ...
4 ـ إنّ كلاّ منهما قد جُعِلَ موضع تزكية من قِبَلِ اللّه تعالى ... حيث وُصِفَ يحيى بأنّه ﴿كانَ تَقِيًّا﴾ ، و وصف عيسى بأنّه جُعلَ ﴿مُبارَكاً ...﴾
5 ـ إنّ كلاّ منهما قد سُلِّمَ عليه: يوم وُلِدَ ، و يوم يموت ، و يوم يبعث حيّاً.
إنّ هذا التجانس في الأفكار المطروحة في قصّتي يحيى و عيسى ينبغي ألاّ نفصله عن التجانس الذي لحظناه في قصتي زكريا و مريم . فزكريا و مريم بصفتهما يجسّدان سمة الوالد و الوالدة ، و يحيى و عيسى بصفتهما يجسّدان ظاهرة الولد ، إنّما تجانس كلّ منهما مع الآخر في خطوط فكرية متنوعة ، فلأنّ انتسابهما لظاهرة متجانسة أيضاً ، هو السرّ الفنّي الكامن وراء ذلك التجانس المدهش في خطوط القصتين و أبطالهما.
بقي أن نشير إلى أنّ هناك دلالة فكرية طرحها النص في قصة عيسى هي:
توصيته بالصلاة و الزكاة ...
فنّياً ينبغي أن نشير إلى ما كررناه سابقاً من أنّ مهمة القصة ، هي طرح الأفكار فيها من خلال أدوات مختلفة ، منها: استثمار موقف أو حادث أو بطل أو بيئة ، حيث يتمّ طرح الفكرة الجديدة في سياق ذلك من خلال عنصر الحوار أو السرد ...
و نظراً لأهمية كلّ من الصلاة و الزكاة حيث يقترنان في كثير من النصوص القرآنية الكريمة ، حينئذ فإنّ طرحهما في سياق التوصية بجملة من الممارسات يظلّ طرحاً فنّياً له جماليته دون أدنى شك ...
أخيراً ينبغي أن نشير إلى أنّ النص عندما ختم قصة عيسى بموقف خاصٍّ هو موقف المنحرفين من تحديد شخصيته ، إنّما وصلها بفكرة جديدة ، هي رسالة الإسلام و موقف المنحرفين منها ، حيث توعّد النص اُولئك المنحرفين الذين نسبوا عيسى (عليه السلام)إلى الربوبية و البنوّة و غيرهما ، ثمّ استثمر النص هذا التوعّد ليصله بالمنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام ، حيث توعّدهم النصُّ أيضاً بالجزاء الاُخروي.
تمهيد
قالَ اللّه تعالى:
﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا﴾
﴿يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾
﴿فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾
يمكننا أن نقول بأنّ هذه الشريحة القصصية المتصلة بمريم و عيسى تشكّل القسم الأخير من قصة مريم ، مثلما يمكننا أن نقول بأنّها بداية لقصة جديدة هي قصة عيسى (عليه السلام). و في الحالين ثمة بِناء قصصي يتّسم بجمالية فائقة من حيث كونه يخضع لإمكانية ما يُسمى بالقصة المتداخلة و القصة المستقلّة.
أمّا كونها متداخلة فلأنّ مريم (عليها السلام) لا تزال تلعب دوراً فيها ، هو إتيانها بالمولود إلى قومها ، و محاورتها مع القوم الذين تساءلوا عن غرابة هذه الحادثة ، و إشارتها إلى عيسى (عليه السلام) بأن يكلّموه ...
و أمّا كونها مستقلة فلأنّ عيسى يبدأ بالتحرك من خلال ولادته بطلا لقصة ستحوم على شخصيته فحسب.
هنا ينبغي أن نضيف إلى ما تقدّم ، إلى أنّ هذا البناء القصصي يشع بجمالية جديدة تبعث الدهشة حينما نلحظ عنصر التوازي أو التجانس بين قصتي مريم و عيسى من جانب ، و قصتي زكريا و يحيى من جانب آخر ، ففضلا عن كون زكريا و يحيى يمثّلان بطلين لقصة واحدة أو لقصتين و مشابهتهما مريم و عيسى من حيث كونهما أيضاً بطلين لقصة متداخلة أو لقصتين ، فضلا عن ذلك ، فإنّ كلاّ من زكريا و مريم يجسّد أحد أبوين لبطلي القصتين الاُخريين ، فيحيى (عليه السلام) هو ابن زكريا (عليه السلام). و عيسى (عليه السلام) هو ابن مريم (عليها السلام) ، كلّ ما في الأمر أنّ زكريا هو الأب ، و مريم هي الاُمّ ، و هذا ما يمكن تسميته فنّياً بالتشابه من خلال التضاد ، و بالتضاد من خلال التشابه ...
و الآن ، خارجاً عن هذه الخطوط الهندسية المتجانسة في هيكل القصتين زكريا و يحيى من جانب و مريم و عيسى من جانب آخر ، و في الخطوط التفصيلية لكلّ منهما حيث لحظنا أكثر من عشرة خطوط متجانسة بينهما ... خارجاً عن هذا البناء الهندسي المحكم ، يعنينا الآن أن نتابع حركة القصة الجديدة: قصة عيسى (عليه السلام).
لقد جاءت مريم (عليها السلام) بوليدها إلى القوم ... و كان ردّ الفعل الأول لهذه المواجهة هي تساؤل القوم عن هذا الوليد :
﴿يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء ...﴾
فنّياً ، أي من زاوية البناء الهندسي للنص يجب أن نلحظ أنّ هذا التساؤل يرتبط عمارياً بقلق مريم (عليها السلام) حيال حادثة المخاض حينما هتفت بمرارة:
﴿يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا﴾
إنّ هذا الهتاف يحمل وظيفة فنيّة ، هي انعكاسه على مستقبل الحدث القصصي ، و ها هو الحَدَث القصصي يتمثّل في هذا التساؤل المصحوب بمشاعر الغرابة أو التشكيك من قِبَلِ القوم ، بمعنى أنّ مريم (عليها السلام) كانت على حقّ حينما تمنّت الموت ، نظراً لأنّ طبيعة القوم سوف تثير عملية تشكيك بهذه الحادثة ... و بالفعل تساءل القوم :
﴿ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء ...﴾
إذاً ثمة تنام عضويٍّ لموقف مريم حيال المخاض ، و موقف مجتمعها حيالها ، ممّا يفسّر لنا أهمية هذا البناء العماري للنص.
و الملاحظ أنّ القوم بدأ تساؤلهم بهذه الصيغة:
﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾
هذا يعني أنّ لهذه العبارة: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ وظيفة فنّية ترتبط بعمارة القصة ...
لابدّ أن تتجسّد هذه الوظيفة ـ حسب ما تذكره نصوص التفسير ـ من أنّ هارون سواء أكان أخاها لأبيها ، أو أخا موسى (عليه السلام) لأنّها من ولده ، أو كان أجنبياً عنها إلاّ أنّه عُرِفَ بسمة الصلاح.
أقول: لابدّ أن تتجسّد وظيفة هارون هنا في كونها مرتبطة بمفهوم العفّة أو التقوى المرتبطة بشخصية مريم أيضاً ، و إن كنا نحتمل فنيّاً أن تكون صلة النسب بين هارون و مريم مرجّحةٌ على غيرها من الصِلات التي أشار المفسرون إليها ، لأنّ النسبة الأجنبية لا ترقى فنيّاً من حيث عمارة القصة إلى نسبة القرابة ...
و أيّاً كان ، فإنّ مريم (عليها السلام) أنهت الصراع الذي كانت تحياه حيال هذه الحادثة ،
انهته بإشارتها إلى القوم بأن يكلّموا وليدها ... إلاّ أنّهم أجابوها مندهشين:
﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾
إنّ هذه العبارة أو الموقف ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ ...﴾ تعدّ نهاية لدور البطلة مريم (عليها السلام) ، إلاّ أنّها تجسّد لحظة الإنارة ـ حسب اللغة القصصية ـ للذروة التي بلغتها حوادث القصة ، حيث يتلهّف القارئ لمعرفة ما ستسفر عنه إشارة مريم إلى أن يتكلّم القوم مع الوليد ، و ردّهم عليها بكيفية إمكان التحدّث مع وليد في المهد ...
الحوادث اللاحقة للقصة سوف تنير هذا الجانب كما سنرى. إلاّ أنّ المهم بعد ذلك كلّه ، هو ملاحظة هذه المستويات من التلاحم و التنامي بين القصص من جانب ، و بين أجزاء القصة من جانب آخر ، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
* * *
قالَ اللّه تعالى:
﴿قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا﴾
﴿وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾
﴿وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا﴾
﴿وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾
هذا المقطع القصصي يتناول مقطعاً عَرَضياً من حياة عيسى (عليه السلام). لقد بدأت اُقصوصة عيسى مع ولادته بذلك النحو المعجز ، و ما واكبه من الظروف التي أحاطت بمريم (عليها السلام) ... و عندما يبدأ عيسى بهذا الحوار مع القوم الذين أثاروا التشكيك حيال مريم ، إنّما ينهي الدور الذي لعبته مريم (عليها السلام) في الاُقصوصة السابقة ، اُقصوصة مريم. فيما أشرنا إلى أنّها قد ساورها القلق الشديد حيال ردّ الفعل الذي ستواجهه ، و حيث انتهى القلق تماماً حينما تكلّم عيسى و هو في المهد بهذا النحو الذي رسمه المقطع.
إنّ ما يعنينا الآن من المقطع القصصي ، هو محتوياته الفكرية ثمّ بناؤه الفنّي وصلة هذا البناء بالهيكل العام لقصص زكريا و يحيى و مريم ، ثمّ صلته بالأفكار العامة التي انتظمتها سورة مريم ...
أمّا محتوياته الفكرية فتتمثّل في طرح جملة من الدلالات التي يستهدف النصُّ توصيلها إلى القارئ ، منها:
أنّ عيسى هو عبدٌ للّه تعالى.
و قد يتساءل القارئ: هل أنّ تقدير العبودية ذو صلة بالأفكار اللاحقة في السورة؟
إنّه لكذلك.
إذاً فلنستمع إلى تعقيب النص على اُقصوصة عيسى:
﴿ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾
﴿ما كانَ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَد ...﴾
إلى آخر الآيات التي تحدّثت عن المواقف المنحرفة للنصارى و اليهود و سواهم ممّن قالوا عنه (عليه السلام): إنّه الإبن أو ثالث ثلاثة ...
إذاً استهلال المحاورة من قِبَلِ عيسى بأنّه عبد إنّما ينطوي على وظيفة فنّية لها منعكساتها على الجزء اللاحق من السورة ، هي الردّ على المنحرفين فكرياً ممّن نسبه إلى الربوبية ، أو البُنُوَّة ... إلى آخره.
لكن خارجاً عن ذلك ، ما هي الدلالات الفكرية الاُخرى المطروحة في القصة؟
الدلالات هي:
إتيانه الكتاب ، جعلهُ نبيّاً ، جعله مباركاً ، إيصاؤه بالصلاة و الزكاة ، البرّ بالاُمّ ، عدم جعله جبّاراً شقيّاً ، السلام عليه يوم ولادته و موته و بعثه ...
إنّ جملة من هذه الدلالات قد طرحت في اُقصوصة يحيى (عليه السلام) أيضاً ، و إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ كلاّ من يحيى و عيسى يجسّدان شخصيتين قد وُلِدَتا بنحو معجز: الأوّل من قِبَلِ الكبر و العقم ، و الآخر من دون فحل ، حينئذ يمكننا أن نفسّر دلالة ما طُرح في قصتيهما من الأفكار ...
المطروح هو:
1 ـ إنّ كلاّ منهما قد اُوتي الحُكم و النبوّة في الصغر.
2 ـ إنّ كلاّ منهما قد وُصِفَ بأنّه لم يكن جبّاراً في الأرض.
3 ـ إنّ كلاّ منهما قد وصف بأنّه بارّ بالنسبة لمن وُلِدَ منه: يحيى من حيث البرّ بوالديه ، و عيسى من حيث البرّ بوالدته ...
4 ـ إنّ كلاّ منهما قد جُعِلَ موضع تزكية من قِبَلِ اللّه تعالى ... حيث وُصِفَ يحيى بأنّه ﴿كانَ تَقِيًّا﴾ ، و وصف عيسى بأنّه جُعلَ ﴿مُبارَكاً ...﴾
5 ـ إنّ كلاّ منهما قد سُلِّمَ عليه: يوم وُلِدَ ، و يوم يموت ، و يوم يبعث حيّاً.
إنّ هذا التجانس في الأفكار المطروحة في قصّتي يحيى و عيسى ينبغي ألاّ نفصله عن التجانس الذي لحظناه في قصتي زكريا و مريم . فزكريا و مريم بصفتهما يجسّدان سمة الوالد و الوالدة ، و يحيى و عيسى بصفتهما يجسّدان ظاهرة الولد ، إنّما تجانس كلّ منهما مع الآخر في خطوط فكرية متنوعة ، فلأنّ انتسابهما لظاهرة متجانسة أيضاً ، هو السرّ الفنّي الكامن وراء ذلك التجانس المدهش في خطوط القصتين و أبطالهما.
بقي أن نشير إلى أنّ هناك دلالة فكرية طرحها النص في قصة عيسى هي:
توصيته بالصلاة و الزكاة ...
فنّياً ينبغي أن نشير إلى ما كررناه سابقاً من أنّ مهمة القصة ، هي طرح الأفكار فيها من خلال أدوات مختلفة ، منها: استثمار موقف أو حادث أو بطل أو بيئة ، حيث يتمّ طرح الفكرة الجديدة في سياق ذلك من خلال عنصر الحوار أو السرد ...
و نظراً لأهمية كلّ من الصلاة و الزكاة حيث يقترنان في كثير من النصوص القرآنية الكريمة ، حينئذ فإنّ طرحهما في سياق التوصية بجملة من الممارسات يظلّ طرحاً فنّياً له جماليته دون أدنى شك ...
أخيراً ينبغي أن نشير إلى أنّ النص عندما ختم قصة عيسى بموقف خاصٍّ هو موقف المنحرفين من تحديد شخصيته ، إنّما وصلها بفكرة جديدة ، هي رسالة الإسلام و موقف المنحرفين منها ، حيث توعّد النص اُولئك المنحرفين الذين نسبوا عيسى (عليه السلام)إلى الربوبية و البنوّة و غيرهما ، ثمّ استثمر النص هذا التوعّد ليصله بالمنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام ، حيث توعّدهم النصُّ أيضاً بالجزاء الاُخروي.
مواضيع مماثلة
» قصَّة مُوسَى (عليه السلام) في مختلف مراحله
» نوح عليه السلام
» قصص إبراهيم و لوط(عليهما السلام)
» وصايا النبي صلى الله عليه
» وصايا سبع جامعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر:
» نوح عليه السلام
» قصص إبراهيم و لوط(عليهما السلام)
» وصايا النبي صلى الله عليه
» وصايا سبع جامعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر:
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى