قصص إبراهيم و لوط(عليهما السلام)
صفحة 1 من اصل 1
قصص إبراهيم و لوط(عليهما السلام)
قصص إبراهيم و لوط(عليهما السلام)
وممّا يلفت النظر حقاً أن نجد في النصوص القرآنية الكريمة عبر أكثر من سورة أنّ كلاّ من إبراهيم و لوط (عليهما السلام)يجسّدان بطلين لقصة واحدة أو لقصتين لا تنفصل إحداهما عن الاُخرى ، أو لبطلين كأنّهما متلازمان يستدعي أحدهما الحديث عن الآخر ...
طبيعيّاً أنّ كلاّ منهما يستقل عن الآخر في قصص اُخرى ، فإبراهيم يتكرر بطلا لقصص متنوّعة لاحظنا بعضها في قصته مع الطيور الأربعة ، و مع نمرود ، و قصص ترتبط ببناء الكعبة ، و ... و قصص سنلاحظها في سور لاحقة مثل قصته المعروفة التي انتهت إلى أن تتحوّل النار عليه برداً و سلاماً ... إلى آخره.
و أمّا لوط فإنـّه يرد في سلسلة القصص المتنوّعة التي تعرض لمصائر الاُمم الممزّقة البائدة ، مثل مجتمع نوح ، و هود ، و صالح و شعيب ... إلى آخره ، حيث تتكرر هذه القصص أو الحكايات في سور متنوّعة بعضها يتّسع حجم القصص فيها و الآخر يضؤل إلى درجة الحكاية ، و لكنها جميعاً ترد في سلسلة متعاقبة من القصص أو الحكايات.
و المهمّ الآن هو ، أن نتناول قصص لوط و إبراهيم في سياقهما المشترك الذي أشرنا إليه ، حيث يتلخّص السياق المشترك بينهما في سور مثل سورة هود ، الحجر ، الذاريات ... إلى آخره. و حيث يمكن تلخيص ذلك في أنّ الملائكة ذات يوم تفد على إبراهيم (عليه السلام) و هو مُنكِرٌ لهم ، ليبشّروه و امرأته و هما كبيران بمولود ، ثمّ يعرفهم و يخبرونه بأنـّهم ذاهبون إلى مجتمع لوط لإنزال العذاب عليهم و إبادتهم بما في ذلك امرأة لوط ، عدا أهل بيته و ذرّيته ، و فعلا يتّجهون إلى لوط (عليه السلام) و هو منكرٌ لهم أيضاً و يعرّفونه أنفسهم بعد أن يتشبّث مجتمعه المنحرف بهؤلاء الملائكة الذين اُرسلوا بهيئة متنكّرة في هياكل بشرية مُرد ، و يبادون في نهاية المطاف ...
إذن قصتا إبراهيم و لوط تردان غير منفصلة إحداهما عن الاُخرى ، بحيث يستدعي أحدهما الآخر بالنحو الذي ألمحنا سريعاً إليه. و السؤال الملحّ جداً هو:
ما هي الأسرار الكامنة وراء هذا الاتحاد بين القصتين أو البطلين ، مع أنّ أحدهما يرتبط بـ بشارة و الآخر ضدّ ذلك هو العذاب أو الميلاد و الموت ، ميلاد الفرد و موت المجتمع ، ميلاد اسحاق و من ورائه يعقوب ، و موت اُمّة بأكملها و هو مجتمع لوط.
ترى ما هي الأسرار الكامنة وراء هاتين المهمّتين للملائكة: الولادة و الإبادة؟ و نحن نطرح هذا السؤال الملحّ نظراً لمواجهتنا عنصراً قصصيّاً ينطوي بطبيعته السردية على ما هو مثير و مدهش وحافل بعناصر المماطلة و التشويق و المفاجئات ... إلى آخره ، ممّا يطبع العنصر القصصي في القرآن الكريم و سواه و اختلافه عن العناصر غير القصصية ممّا تنتمي إلى الأشكال التعبيرية الاُخرى .
المهمّ من جديد نتساءل: ما هو السرّ الكامن وراء الاتحاد بين قصتين أو بطلين يداعي أحدهما الآخر مع ملاحظة أنـّهما لا يشتركان البتة في الموقف و الحدث و البيئة؟
إنـّه من المتعذّر بأن نفسّر هذا الجانب تفسيراً تامّاً أو صائباً بقدر ما نخضع ذلك ما وسعنا إلى الاحتمال الفنّي فحسب ، أي أنّ التذوّق القصصي الصرف ، و هو أمرٌ يكشف بطبيعة الحال عن الإمتاع الذي تتميّز القصة القرآنية به ، و لا نعلم فيما إذا كان المتلقّون ـ قرّاء القصة القرآنية المذكورة ـ سوف يحرصون بأجمعهم على معرفة سبب تواشج هاتين القصتين أيضاً؟
إذن لنتحدّث عن الاحتمال الفنّي للظاهرة المذكورة ... و لعلّ الملحظ الأوّل لهاتين القصتين هو: القرابة التي تطبع البطلين المذكورين ، حيث تذكر النصوص المفسّرة بأنّ لوطاً (عليه السلام) هو ابن اُخت إبراهيم (عليه السلام) و هو أمرٌ قد نجد له مماثلا في بعض
القصص ، و منها ما لاحظناه مثلا في قصص مريم (عليها السلام) و ما سبقها من أبطال ينتمون إلى الاُبوّة و البنوّة مريم و عيسى (عليهما السلام) ، زكريا و يحيى(عليهما السلام) ، و أيضاً ما نلحظه في قصص لاحقة تتصل بسليمان و داود (عليهما السلام) مثلا ... و هكذا . لكن الملاحظ فيها جميعاً هو ليس البُعد القرابي ـ النسبي فحسب ، بل الاشتراك في السمات
و الأحداث و المواقف و البيئات ، حتى أنّنا لنجد من السمات المشتركة ما يتجاوز العشرة منها ، بينما لا نجد في قصتي إبراهيم و لوط (عليهما السلام) من المشتركات عدا القرابة
المشار إليها ، بل نجد عكس ذلك ، أي التضاد أو التباين ... إلى آخره.
المهم ، أنّ أحد الاحتمالات الفنّية للقصتين المتقدّمتين هو: عنصر القرابة.
و أمّا ثانياً ، أي الملحظ الآخر الذي قد يقف وراء الاتحاد المذكور بين القصتين و بطلهما ، هو: معاصرة إبراهيم و لوط ، حيث أنّ وجودهما حيّين يمارسان مهمّتهما العبادية في الحياة مسوّغ آخر بدوره ، و لكنه مسوّغ يرتبط بأهمّ علاقة تنتظمها.
و هي ثالثاً: أنّ لوطاً (عليه السلام) هو أوّل من آمن بإبراهيم (عليه السلام) ، فصِلة لوط بإبراهيم من حيث كونه يرتبط موقفيّاً بإبراهيم له أهميته الكبيرة من حيث وثاقة العلاقة بين البطلين.
رابعاً: يمكن الذهاب إلى أنـّهما يتماثلان في قلّة أتباعهما المؤمنين ، حيث أنّ إبراهيم كان وحده اُمّة و مبلّغاً ، و لوطاً بدوره كان وحده و بعض ذويه قد سلموا من الاستئصال.
خامساً: تماثلهما في المهاجرة حيث أنّ إبراهيم و لوطاً قد هاجرا من مكانهما إلى آخر بحسب ما صرّح القرآن الكريم به عبر قوله تعالى:
﴿وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ﴾
سادساً: مجيء الملائكة لإبراهيم متنكّرين ، و كذلك إلى لوط.
سابعاً: مجيئهم المصحوب بمهمّة خاصة لكلّ منهما ، حيث تتّسم المهمّة بحدث إعجازي الإنجاب في مرحلة الكبر و الجزاء الاجتماعي المتمثّل في جعل الأرض سافلها عاليها و طمس الأعين ... إلى آخره.
ثامناً: أنّ نفس مناقشة إبراهيم (عليه السلام) للملائكة في إخبارهم إيّاه بمهمّتهم لإبادة
مجتمع لوط يكشف عن الاهتمام الذي يوليه إبراهيم ـ و هو الخال للوط ـ حيث يعنيه أمر لوط لا لأنـّه ابن اخته و إلاّ فإنّ إبراهيم تخلّى عن عمّه آزر عقائدياً ، بل لأنّه المشارك له في الإيمان برسالة السماء.
إذن هذه الأسباب و سواها لعلّها تفسّر لنا جانباً من الأسرار الكامنة وراء اتحاد البطلين و قصتهما ، و إن كنّا حتّى هذه اللحظة نتطلّع إلى معرفة السبب الأشدّ وثاقة بالموضوع دون أن نصل إليه ...
على أيّة حال ، لندع هذا الجانب و نتحدّث عن البناء الفنّي و الفكري للقصة أو القصتين المتداخلتين ... و نكتفي من ذلك بالقصة الواردة في سورة «هود» دون سواها تبعاً لما سلكناه من منحىً دراسي يأخذ تسلسل السور بنظر الاعتبار ، إلاّ في حالات خاصة نجد فيها أنّ تناول هذه القصة أو تلك يحمل مسوّغات فنّية دون سواها ...
و المهم أن نشير إلى جملة نقاط في هذه الحقل ، منها أنّ ثمّة تفصيلات نجدها في قصة إبراهيم و لوط في سورة «هود» تختلف عن التفصيلات التي نجدها في سور اُخرى ، فقد تعرض القصة هناك ما لم تعرضه في سورة اُخرى ، و قد تعرض هناك في السور الاُخرى ما لا نجده في السورة التي نحن بصددها .
و لكن في الحالات جميعاً يظل الحديث عن البناء الفني و الفكري هو المستهدف في الدراسة. كما ينبغي لفت النظر إلى نقطة اُخرى لها اهميتها ، و هي أنّ قصص إبراهيم و لوط لا تتّحد في عرض المواقف أو الأحداث جميعاً ، بل نجد اختلافاً ملحوظا في ذلك ، فمثلا نجد في سورة «هود» أنّ القصة تبدأ بهذا النحو:
﴿وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى﴾
أي بشارتهم بالمولود ، بعد ذلك تقول القصة:
﴿فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوط﴾
حيث يستكشف القارئ بأنّ الملائكة بشّرت إبراهيم (عليه السلام) أوّلا بولادة إسحاق ،
ثمّ جادل الملائكة في قوم لوط ، و لكن القصة ذاتها تقول:
﴿فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ﴾
﴿وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ...﴾
فهنا يجد قارئ القصة بأنّ الملائكة الذين جاؤا متنكرين بزيّ البشر ، حيث قدّم لهم إبراهيم عجلا سميناً و لكنهم لم يأكلوا منه ، و حينئذ خاف منهم ، و لكنهم طمأنوه قائلين:
﴿لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
و هذا يعني أنّهم أخبروه أولا بمهمتهم حيال مجتمع لوط ، ثمّ بشّروه بالمولود.
إذن في القصة ذاتها ما يوحي بأنّ البشرى بالمولود هي المتقدّمة موقفاً ، ثمّ الإخبار بقضية لوط و مجتمعه ، و أيضاً العكس هو الموحى أيضاً ، أي الإخبار بلوط و مجتمعه أوّلا ، ثمّ ببشارة الولد ...
و الأمر نفسه نجده في سورة «الذاريات» حيث قالت القصة:
﴿قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلام عَلِيم﴾
حيث أنّها صريحة في أنّ البشرى سابقة على التلويح بالعقاب ، و لعلّ القصة الواردة في سورة «الحجر» أشدّ وضوحاً حينما قالوا:
﴿لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم ...قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾
﴿قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْم مُجْرِمِينَ ...﴾
حيث نستخلص من هذه القصة و سابقتها أنّ البشرى بالوليد جاءت أولا ، ثمّ الإرسال إلى قوم لوط ... من هنا نتساءل: لماذا ـ إذن ـ نجد في القصة الواردة في سورة «هود» أنّ العرض القصصي يوحي و كأنّ الملائكة تحدّثت أوّلا عن مجتمع لوط ، ثمّ البشرى بالوليد؟ و الأشدّ إثارة هنا ، هو أنّ بعض النصوص المفسّرة ذهبت إلى أنّ امرأة إبراهيم حينما ضحكت إنّما كان ذلك ليس بسبب بشارتها بالوليد ، بل كان ضحكها تعجباً من غفلة قوم لوط، أو لامتناعهم عن الأكل ، أو لأنّها فهمت أنّ لوطاً سيكون بمنجىً من العذاب ... إلى آخره ، إلاّ أنّنا لا نميل إلى هذه التفسيرات لجملة أسباب ، منها: أنّ الضحك لا يتّسق مع الإخبار بالعذاب المستأصل ، بل يتّسق مع البشارة بمولود لايخطر ببال المرأة العجوز ، هذا بالإضافة إلى أنّ نصوصاً تفسيرية عن أهل البيت (عليهم السلام) تعبّر بوضوح من أنّ الضحك كان بسبب البشارة و ليس التعجب من غفلة قوم لوط ، و الأمر هو تقديم و تأخير ، لعلنا نستطيع أن نبيّن أسرار ذلك عندما نتناول البناء الفنّي للقصة.
إنـّه من الممكن للقارئ ألاّ يقيم وزناً لما نهتم به من معرفة سبب الضحك أو معرفة أنّ البشرى كانت بالمولود أولا أو بإبادة مجتمع منحرف ، و لكننا نهتم بذلك لأنّ النص القرآني الكريم لا يقدّم موقفاً أو واقعة تخلو من هدف إلاّ و يحملنا على معرفة السرّ الكاملن وراء ذلك، نظراً لأنّ الإحاطة بالنكات المتنوّعة و العميقة لها إسهامها في إثراء المعرفة العبادية بعامّة.
على أيّة حال نتحدّث عن البناء الفنّي و الفكري للقصة ، لنستخلص في الآن ذاته ما تتضمّنه من القيم الفكرية المستهدفة.
إنّ أول حدث أو موقف يواجهه قارئ القصة هو:
﴿جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ﴾
القارئ يعرف سلفاً أنّ الرسل هم الملائكة لأنّ النبيّ يتعامل مع قنوات الغيب ، ... بيد أنّ إبراهيم لا علم له بذلك ، بدليل أ نّه بعد أن سلّموا عليه و سلّم عليهم (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْل حَنِيذ) لذلك لو كان يعلم أ نّهم رسل اللّه تعالى لما قدّم لهم الطعام لأنّ الملائكة لا تجربة لهم في الطعام ... القصة بطبيعة الحال لا تنقل لنا هذا الكلام ، بل تدعنا ـ نحن قرّاء القصة ـ نُساهم في تفسير مواقفها و أحداثها ، ... لكن الأهم من ذلك جميعاً هو العرض المضبّب الذي نواجهه من بداية القصة ... أليس من حق القارئ أن يتساءل: لماذا جاءت الرسل إلى إبراهيم؟ هذا أولا.
ثانياً ما هي البشرى التي ذكرتها الحكاية ، هل هي مرتبطة بشخصه أم بمجتمعه؟ مع ملاحظة أنّ البشرى قد يبلغ مداها الآلاف من الحوادث أو المواقف.
في غمرة هذه الضبابية التي تلفّعت القصة بها نواجه ضبابية أشدّ حينما يقدّم إبراهيم الطعام لهم ... فإذا كانوا ملائكة فما معنى تقديم الطعام إليهم؟ وإن كانوا بشراً و هو ما يلتئم مع ظاهرة الطعام ، فلماذا سمّاهم النص القصصي رسل اللّه؟
صحيح أنّ الرسل هم بشر ، و لكن هل نتعقّل إمكانية أن يبعث اللّه تعالى مجموعة من الأنبياء ينزلون ضيوفاً على إبراهيم؟ طبيعيّاً أن يستكشف القارئ بوضوح أنّ الرسل هم ضيوف ـ كما قلنا ـ بمكان ...
و لكن المفاجأة القصصية تزيد القارئ ضبابية حينما يصدم بعملية ، هي عدم أكلهم للطعام. هذه الصدمة أو المفاجأة المضبّبة تزيد الموقف ضبابية حيث يختلط على القارئ و يلتبس عليه و يحيا في غابات مكثّفة من التيه متسائلا: إنّهم إذن بشر لا ملائكة ، بدليل أنّـه(عليه السلام) قدّم لهم طعاماً ، و لكن لماذا لم يتناولوه مع أنـّهم جاؤا ببشارة لصاحب المنزل؟ القارئ إذن لا يهتدي إلى شيء ، و هنا تجيء المماطلة و التشويق و المفاجآة تتراكم لتفصح أو لتكشف لنا ما غطّى اُفق قراءتنا عن ضباب ، و لكنه نسبي لا كلّي حيث أنّ الضبابية لا تزال تضرب بأجنحتها على الاُفق ...
و أول تجلية لضبابية الموقف هي: أنّ إبراهيم (عليه السلام) كشف للقارئ بأنـّه ليس على
إحاطة البتة بهؤلاء الضيوف ، لذلك نكرهم و توجّس خيفة منهم عندما وجد أن أيديهم لا تصل إلى طعامه :
﴿فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾
إذن ماذا يستخلص قارئ القصة هنا؟ و ما هي المفاجأة؟ يستخلص بأنّ ضيوفاً نزلوا عنده بدليل تقديمه الطعام ،و الضيوف كما قلنا بشر في تصورّه للدليل ذاته ...
و لكن أما من حقّ إبراهيم (عليه السلام) أن يسيطر عليه الخوف حينما يفاجأ بأنّ البشر أو
الضيوف لا يأكلون الطعام ، مع أنّ الأعراف الاجتماعية تقضي بضرورة تناول الطعام بنفس الضرورة التي تحكم على صاحب الدار بتقديم الطعام إليهم.
و الواقع أنّ خوف إبراهيم ينعكس حيرة عند قارئ القصة ، لأنّ قارئ القصة أساساً عرف بأنّ ضيوف إبراهيم ليسوا من البشر ، إلاّ أنّ إبراهيم (عليه السلام) بسبب أنـّه نكرهم و توجّس منهم خيفة جعل القارئ متحيراً ليس بسبب أنّ الرسل لم يتناولوا الطعام ، بل لتوجّسه خيفة منهم ...
طبيعيّاً قد يستخلص القارئ سريعاً بأنّ إبراهيم مادام قد خفي عليه أنـّهم ملائكة اللّه تعالى ، حينئذ سوف تضطرب أعماقه عندما يجد أنّ ضيوفه ليسوا من البشر العاديين ، مع ملاحظة أن القارئ سوف يتساءل: لماذا الوجل؟ فإذا كان تصوّره أنـّهم ملائكة و ليسوا بشراً ، حينئذ فإنّ الأمر لا يتطلّب وجلا ـ و هو المتعامل مع الغيب ، بل هو خليل اللّه تعالى ـ لذلك يظلّ القارئ فريسة توقّعات و تفسيرات جمّة لا يهتدي من خلالها إلى شاطئ اليقين ، طبيعيّاً أنّ النصوص التفسيرية سوف تضطلع بحلّ المشكل ، و لكننا بصفتنا قرّاء للقصة فإنّ القصة ذاتها تدعونا لأن نمارس عملية الكشف لفراغاتها.
إنّ النصوص التفسيرية تُلقي إضاءات متنوّعة على الموقف ، إنّها توضّح بأنّ إبراهيم (عليه السلام) كان مضيافاً يحبّ الضيوف و يهتم بشؤونهم و لذلك أسرع بتقديم العجل لهم ، و لكن لمّا وجدهم لاتصل أيديهم إلى الطعام حينئذ سيطر عليه الخوف و ذلك بسبب تصورّه أنـّهم جاؤا لممارسة مهمّة تقترن بنزول البلاء مثلا ، خاصة أنّ الأعراف الاجتماعية عصرئذ كانت إذا أكلت الضيوف من الطعام ، حينئذ لا تصدر عنها أيّة إساءة لمضيّفها لأنـّها أكلت من طعامه ... فإذا امتنعت فهذا يعني أنّ الضيوف سوف يمارسون سلوكاً غير متعارف ، أو شرّيراً مثلا. كما تُقرّر هذه النصوص التفسيرية إمكانية أن يكون خوفه من أنهم ليسوا بشراً ، بل من جنس آخر غير محدد جاؤا لبلاء ما؟ وتقرّر نصوص اُخرى أنّه علم أنـّهم ملائكة ، و أنـّهم جاؤا لكي ينزلوا بالبلاء على مجتمع إبراهيم.
و نصوص اُخرى تزعم بأنه خيّل إليه بأنـّهم لصوص ... إلى آخره.
هذه النصوص التفسيرية تلقي إنارات متنوعة على الموقف ، و لكنها من الجانب الآخر ينطوي بعضها على تفسير غير قابل البتة للتسليم به ، كذهاب البعض إلى أنـّه (عليه السلام)عرف أنـّهم ملائكة جاؤا لإنزال العذاب على مجتمعه ، حيث لا يمكننا التسليم بهذا مادام قد قدّم لهم الطعام ، حيث أنّ الملائكة لا يفعلون ذلك ، و لعلّ الإنارة التي ألقاها النص المفسّر ، هي إمكانية أن يكون الخوف هو نزول البلاء على مجتمعه أو مجتمع سواه ، ممّا يشكّل لديه هاجساً يهتمّ به ... و لكن إذا تجاوزنا النصوص التفسيرية و تابعنا النص القصصي ، حينئذ نجد أنّ الضبابية تنقشع قليلا عندما يُفاجأ و نُفاجأ نحن أيضاً بالعبارة الحوارية القائلة:
﴿لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
إذن الإنارة تفضي بالقارئ ـ و بإبراهيم (عليه السلام) قبل ذلك ـ إلى أن يفهم بأنّ المجموعة المتنكرة بزيّ البشر هم ملائكة أرسلهم اللّه تعالى إلى قوم لوط ...
طبيعيّاً هذه الإنارة سوف تجعل قارئ النص مستجيباً لنمط آخر من الاستجابة هي: الاستجابة المفرحة المتمثّلة ببشارة المولود ، حيث يقرّر العرض القصصي في سورة الحجر (قالُوا: لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم) إذن ، نكرر بأنّ قارئ القصة في سورة «هود» سوف يستجيب باستجابة تقترن بنزول عذاب على المنحرفين ، بمعنى أنّ غضب اللّه تعالى قد نزل على القوم ، بخلاف استجابته المسرّة المبشرة بالمولود ...
لكن لندع الإنارة المتقدّمة ، و نواصل حركة القصة و تموّجاتها و إيقاعاتها المتنوّعة التي تحفل بإثارات ممتعة ، و لكنها مشفوعة بشيء من الضبابية الممتعة أيضاً ...
* * *
يمكننا أن نذهب بأنّ ما عرضناه للآن يمثّل القسم الأوّل من حكاية إبراهيم (عليه السلام)
متمثّلة في المناخ المضبّب الذي وجدناه في حادثة الضيوف المجهولين ... صحيح أنّ القصة قد اعتمدت الاستباق الزمني في استهلالها عندما قالت بوضوح:
﴿وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى﴾
حيث وضعت القارئ في مناخ مسرّ و ليس مأساوياً هو ، مجيء الرسل بالبشارة إلاّ أنـّها بدأت بتضبيب الموقف بعد أن ارتدّت الاسترجاع الزمني إلى أول الموقف و هو الذرية ، ثمّ إنكار إبراهيم (عليه السلام) ثمّ «الخوف». و المهم الآن أنّ القسم المشوب بالضبابية التامّة قد انقشع الآن مع القسم الآخر من الحكاية و هو إخبار الملائكة إبراهيم بالمهمة الملائكية ، أي الإرسال إلى قوم لوط بما واكب ذلك من الاستجابة الصادرة عن امرأة إبراهيم (عليه السلام)عبر قوله تعالى:
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾
ثمّ بالبشارة بإسحاق و يعقوب بعده ، ثمّ الاستجابة الجديدة الصادرة عن امرأة
إبراهيم أيضاً عبر قوله تعالى:
﴿قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنـَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾
ثمّ إجابة الملائكة:
﴿أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾
ثمّ ذهاب الخوف عن إبراهيم و مجيء البشارة ، ثمّ مجادلة إبراهيم بالنسبة إلى قوم لوط. هنا يتضبّب الموقف من جديد عندما ترسم القصة موقف إبراهيم بأنـّه مجادلة حيث لايستطيع القارئ أن يتبيّن معالم هذه المجادلة و محورها بقدر ما يفهم بعد ذلك بأنـّه يعترض أو يستفسر ـ على أحسن تقدير ـ عن بعض القضايا.
إلاّ أنّ القصة تضع القارئ بعدها في شيء من الإنارة المضببة و هي ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ﴾. و هذا هو التعقيب الإلهي على موقف إبراهيم المجادل ، و لكن المحاورة تعود بين إبراهيم و الملائكة ، أو بالأحرى أنّ القصة قطعت محاورة إبراهيم و عقّبت متدخلة ثمّ واصلت المحاورة متمثّلة في إجابة الملائكة لإبراهيم:
﴿يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾
﴿وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُود﴾
و بهذا تنتهي حكاية إبراهيم ، لتجيء حكاية لوط ... لكن قبل أن ننتقل إلى تحليلنا و تفسيرنا لحكاية لوط ، يتعيّن علينا أن نتناول الصياغة الفنّية للقسم الثاني من حكاية إبراهيم ، متمثلة ـ كما مرّ ـ في الاستجابتين الصادرة عن إبراهيم و امرأته ، و قبل ذلك: لماذا ربطت الملائكة بين خوف إبراهيم و إزالته و بين إخباره بأنـّهم مرسلون إلى قوم لوط؟ ثمّ ـ و هنا موقع الدهشة الفنّية ـ تفسير الضحك لدى امرأة إبراهيم ، و من ثمّ تعجّبها من الإنجاب ... إلى آخره.
هذه الظواهر مع وضوحها تظل ملفّعةً بغموضها أيضاً ، حيث أنّ الوضوح يتمثّل في عملية الإرسال و عملية الإنجاب ، و قبلهما معرفة أنّ الضيوف هم رسل اللّه تعالى و أمّا الغموض فيتمثّل في تحديد البشارة و في أسبقيتها ، و ضحك امرأة إبراهيم (عليه السلام)و مجادلة إبراهيم في قوم لوط ... اُولئك جميعاً أي: الوضوح و الضبابية ستكشف لنا بناء الاُقصوصة جمالياً و ما ينتظم ذلك من أسرار فنّية.
إنّ أول سؤال يثار في هذا الحقل هو: هل إنّ الملائكة بشّروا إبراهيم بإنزال العذاب على قوم لوط ، أم بالمولود الجديد ، أم بهما؟ و إذا كان الأمر كذلك أو لا ، فهل بدأت البشارة بالولادة أم الإبادة؟ و قد سبق أن أشرنا أنّ قارئ القصة إذا كان مستعجلا لاستكشاف ما هو مهمّ في نظره ، حينئذ سيعترض قائلا: لماذا يتناول الناقد الأدبي ظاهرة أيهما أسبق: الولادة أم الإبادة؟ ما هي فائدة ذلك؟ أليس المهمّ هو معرفة الدارس أو الناقد أو القارئ ، بأنّ الملائكة جاؤا بمهمّتين ، إحداهما: البشارة بالمولود ، و الاُخرى: إنزال العذاب على قوم ، و ما عدا ذلك فلا فائدة من معالجته؟ إلاّ أنّنا نجيب القارئ بما يلي:
القصة القرآنية لا تصوغ موقفاً أو واقعةً من أجل الإمتاع الجمالي وحده ، بل تردفه ـ و هذا هو الأهم ـ بالإمتاع الدلالي. و عندما تنتخب في قصة ما إبراز الولادة و في اُخرى إبراز الإبادة ، و في ثالثة تزاوج بينهما بحيث لا يتبيّن القارئ ما هو المهم ، و ما هو الأهم ، و ما هو الهدف من ذلك ، عندئذ نستنتج بأنّ المسألة ليست عملا عابثاً و العياذ باللّه ، بل لا مناص من محاولة التفسير لهذه الصياغة الجمالية ...
إذن لنحاول إلقاء الإنارة على ما تقدّم ...
بالنسبة إلى أيّهما أسبق: بشارته بالولادة أم الإبادة ، يحسن بنا أن نعرض العبارة القصصية ذاتها:
﴿قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
النص هنا صريح بأنّ الملائكة قالوا: أوّلا بأنّ مهمّتهم هي الإرسال إلى قوم لوط. هنا بعد أن طمأنوه على هذه المهمة ، عرض النص استجابة امرأة لوط ... إنّ دخول امرأة لوط بطلةً في القصة لم يأت جزافاً ، بل لابدّ له من الاضطلاع بوظيفة فنّية هي إلقاء الإنارة على الموقف و الحدت ، فماذا نستخلص من دخول الإمرأة بطلة هنا؟ يقول النص:
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾
﴿قالت: يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾
﴿قالُوا : أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾
﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾
هذه المحاورة بين امرأة إبراهيم و الملائكة ، و قبل ذلك استجابتها لحدث الإرسال بــ الضحك ، ثمّ تبشير السماء ـ لا الملائكة ـ بإسحاق و يعقوب ... ماذا نستخلص جمالياً و دلالياً منها؟
و بما أنّ هدف دراستنا للقصة القرآنية هو: تذوّقها الفنّي الخالص دون الرجوع إلى النصوص المفسّرة إلاّ أنّ هذا لا يحجزنا من الرجوع إليها للإضاءة فحسب.
طبيعيّاً ثمة فارق بين أن نستوحي و نستكشف دلالات فنّية من النص ، و بين أن نفسّر برأينا متشابهات القرآن الكريم ، حيث لا مناص من الرجوع إلى ما يفسّره المعصوم (عليه السلام) ، و لذلك نلجأ إلى النصوص المفسرة بين الحين و الآخر لهدفين:
أحدهما: أنّ المتشابه لابدّ من الرجوع إلى النصوص المفسرة حياله.
و الآخر: أنّ الظاهر أو المحكم أو النص غير المقترن بإمكانية وجود دلالة غائبة خارجة عن دلالته اللغوية. و حيث نتجه إلى استكشاف الوظائف الفنية لموقف امرأة إبراهيم حيال طمأنة الملائكة إبراهيم بعدم الخوف ، و أنّ المسألة ترتبط بقدومهم لإنزال العذاب على مجتمع لوط.
هنا لابدّ من التنبيه قبل أن نتحدّث عن الوظائف الفنّية للبطلة إلى أنّ المجيء الصرف إلى منزل إبراهيم لا معنى له إذا كان الهدف هو مجرّد إخباره بأنّ مجتمع لوط سوف يباد عدا ابن أخيه لوط و ذويه ، فلابدّ إذن أن يقترن مجيء الملائكة بوظيفة تخصّ إبراهيم و ذويه ، أي امرأته ، و هو: البشارة بالإنجاب ، حيث يتعلق الإنجاب بهما ، و لذلك تجيء البطلة امرأة إبراهيم أمراً لا مناص منه من الزاوية الفنّية ، بل إنّ اهتمام المرأة بالإنجاب سيكون أشدّ من الرجل و لذلك من الزاوية الفنّية نجد أنّ النص عرض محاورة المرأة بطولها المتمثل أولا بقولها بعد أن قال اللّه تعالى:
﴿فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ﴾
حيث قالت: ﴿يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ﴾
و بقولها: ﴿هذا بَعْلِي شَيْخاً﴾
و بقولها تأكيداً عدا ما سبق: ﴿هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ...﴾
و هذا يفسّر لنا الاهتمام الأشدّ لدى المرأة بظاهرة الإنجاب ...
من هنا نتوقّع أو تزداد قناعتنا بأنّ البشارة بالمولود هي السابقة على الإخبار بإبادة قوم لوط ، حيث تهمّ الحادثة طرفي الإنجاب ، لكن نلاحظ بوضوح أنّ النص ـ كما قلنا ـ طمأن إبراهيم من خلال الإخبار بالعذاب ، ثمّ ترك حوار الملائكة ليقدّم لنا سرداً هو:
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها ...﴾
هذا يعني بوضوح أنّ البشارة جاءت متأخرة ، و هو أمر يتنافى ظاهرياً مع فلسفة دخول الملائكة ضيوفاً على إبراهيم ، إلاّ في حالة ما إذا انطلقنا من تذوّق فني خالص هو: بما أنّ إبراهيم يجسّد شخصية كبيرة أو متبوعة ، في حين أنّ لوطاً يجسّد شخصية أصغر منها و تابعة ، بدليل أنـّها آمنت برسالة إبراهيم ، حينئذ فإنّ المناسب ، هو الدخول عليه أي على إبراهيم (عليه السلام) أولا و إخباره بالموضوع بصفته نبيّاً عظيماً يعنيه ما يجري في مجتمع لوط ... و خلال ذلك يُبشّر بولادة إسحاق و من بعده يعقوب ، مع ملاحظة أنّ هذه البشارة ليست مجرّد حدوث إنجاب معجز ، بل هو إنجاب لشخصيات عبادية مصطفاة ، فإسحاق و يعقوب ليسا شخصين عاديين بقدر ما يجسّدان شخصيات نبويّة لهما فاعليتهما في توصيل
مبادئ السماء إلى الآخرين.
إذن البشارة بالوليد لها دلالتها القصصية الخطيرة و هي الوليد النبويّ و ليس العادي ، و لكن إذا قدّر لنا أن نقتنع الآن بأنّ حدث البشارة جاء متأخّراً بالقياس إلى حدث العقاب فلاِنّ الموقع الذي يحتلّه إبراهيم بالقياس إلى لوط يفسّر لنا عملية دخول الملائكة إلى بيته قبل ذهابهم إلى بيت لوط ، و لكن ثمة إشكالات ترد على هذا الاستخلاص الذي عرضناه ، من أنّ امرأة إبراهيم قد ضحكت:
﴿قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ...﴾
و قد قلنا ـ قبل صفحات ـ : إنّ الضحك لا يتناسب مع نزول العقاب ، بل مع حدوث البشارة ... و من الإشكالات أيضاً أنّ قصة إبراهيم و لوط في السور القرآنية الاُخرى كانت صريحة في تقدّم خبر البشارة على الإبادة ، يقول النص القصصي في سورة الحجر:
﴿قالُوا: لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم﴾
و كذلك نجد الظاهرة ذاتها في سورة الذاريات:
﴿قالُوا: لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلام﴾
إذن مع هذه الصراحة كيف نوفق بين هاتين الحكايتين و بين الحكاية الواردة في سورة هود؟ هاتان الإشكاليتان يُمكن الإجابة عنهما على النحو الآتي: بالنسبة إلى امرأة إبراهيم تقول بعض النصوص المفسّرة ـ و قد سبق أن ذكرناها و استبعدناها ـ : إنّ ضحكها كان تعجباً من غفلة قوم لوط.
و يقول بعضها: كان تعجباً من امتناعهم عن الأكل.
و يقول بعضها: إنّما ضحكت تعبيراً عن سرورها بالنسبة إلى نجاة لوط من العقاب المذكور. لكن ورد ـ كما ذكرنا ـ أنّ المعصوم (عليه السلام)ربط ظاهرة الضحك بالبشارة ، حيث علّل البعض بأنّ النص القصصي استبق و استرجع المواقف من حيث العرض ، أي قدّم و أخّر لنكات فنّية ... و مع صدور النص المفسّر من المعصوم لا نملك تفسيراً مقابلا بقدر ما يمكن الذهاب إلى أنّ الضحك من المحتمل أن يكون لسببين ، بحيث أنّ المعصوم (عليه السلام) حينما يقتصر على ذكر سبب واحد لا يعني نفيه لسبب آخر ...
و أما بالنسبة إلى تقدّم خبر البشارة على الإبادة ، فيخضع للظاهرة ذاتها ، أي من الممكن أن تحدث البشارة بالأمرين معاً ، أي: البشارة بالوليد ، و البشارة بهلاك المنحرفين ... و كذلك الأمر بالنسبة إلى قولهم لاتخف قالوها مرة ، ثمّ أتبعوها بخبر لوط ، ثمّ أتبعوها مرّة اُخرى بخبر الإنجاب ، حيث أنّ ذكر أحدهما لا ينفي وجود الآخر.
إذن نستخلص ممّا تقدم بأنّ النص القصصي حينما يقدّم حيناً خبر الإنجاب ، و حيناً خبر الإبادة ، فلأنّ السياق يتطلب ذلك ، كأن يستهدف النص لفت النظر مرة إلى أهمية الإنجاب و اُخرى إلى أهمية العقاب للمنحرفين ... و بالنسبة إلى الاُقصوصة التي نتحدث عنها في سورة «هود» نجد فيما بعد، أنّ العرض القصصي للمواقف و الأحداث و البيئات و الشخصيات يتّسم بطول و بتفصيل لا يرد في القصص الاُخرى الواردة في سورتي «الحجر» و «الذاريات» مثلا ، ففي سورة الحجر لا تتجاوز الإشارة بالنسبة إلى لوط و مجتمعه:
﴿جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾
﴿قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ﴾
﴿وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ﴾
﴿قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ﴾
﴿قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾
و في سورة الذاريات يظل العرض القصصي أقصر:
﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِين﴾
﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾
﴿فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْت مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
و لكننا بالنسبة إلى سورة هود(عليه السلام) نجد أنّ التفصيلات للعناصر القصصية أغزر و أشمل طرحاً لدلالات متنوّعة ، و لنقرأ:
﴿فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوط﴾
﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ﴾
﴿يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾
﴿وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُود﴾
إنّ هذه المناقشة أو المجادلة مع الملائكة بالنسبة إلى موقف إبراهيم من إنزال العقاب على مجتمع لا ذكر له في القصتين الواردتين في سورتي الحجر و الذاريات ... و هذا وحده كاف للإفصاح عن الأهمية التي تستهدفها القصة لحادثة نزول العذاب على المجتمع المنحرف ... و لكن بالإضافة إلى ذلك نجد التفصيلات الآتية:
﴿وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾
﴿وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾
﴿وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾
﴿قالَ: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾
﴿أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾
﴿قالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ﴾
﴿قالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْن شَدِيد﴾
﴿قالُوا: يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ...﴾
لنلاحظ أنّ هذا العرض القصصي حواراً و سرداً يتضمّن تفصيلات لا وجود لها في القصص الاُخرى ، منها ـ وهذا هو الأهم ـ : ردّ الفعل الصادر من لوط من حيث حجم الشدائد التي واجهها من جانب ، و من حيث نمط أو نوعية الدعاء أو المساعدة التي طلبها من اللّه تعالى ... القصص الاُخرى اقتصرت على الإشارة إلى استبشار المنحرفين بضيوف لوط و ردعه إيّاهم بعدم فضحه ، و تقديم بناته و إجابتهم بعدم رغبتهم ، و أخيراً نزول العذاب. بينما نجد في سورة هود ، ما يأتي:
ساءه ، أي لوط مجيء الضيوف لأنـّه خاف عليهم من مجتمعه:
﴿وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ﴾
ضاق بمجيئهم ذرعاً حيث جاؤا في صورة مُرد و جمال.
﴿وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾
قوله:
﴿هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾
و هو دعاء يكشف عن المرارة العميقة التي يتحسّسها في أعماقه. و في هذا السياق ينقل أحد المفسّرين قول الإمام الصادق (عليه السلام) بأنّ لوطاً كان ـ و هو يصطحب ضيوفه إلى منزله ، حيث هبطوا عليه في مكان آخر ، ـ يقول بما مؤدّاه: أيّ شيء أقدمت عليه؟ كيف آتي بهم و قومي أشرار كما أعرفهم؟ و ... و من البيّن أنّ هذه المحاورة مع نفسه تكشف عن المرارة و عمق الأسى و التمزّق ... إلى آخره.
قوله:
﴿ألَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟﴾
هذا التساؤل بدوره يكشف عن الشدّة النفسية التي يكابدها.
قوله:
﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾
أي ، ليت لي قوّة استطيع من خلالها أن أقف أمامكم ... واضح أيضاً أنّ هذه المحاورة تكشف عن قلقه الكبير و تمزّقه و أساه بحيث يتمنى أن تصل إليه قوّة لمساعدته.
قوله:
﴿أَوْ آوِي إِلى رُكْن شَدِيد﴾
أي ، ليت لي مثلا عشيرة أحتمي بها من شرّ هؤلاء المنحرفين ... و في هذا السياق ورد نصّ مفسّر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) من أنّ لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد هو:
مساعدة اللّه تعالى إيّاه.
إذن هنا التفصيلات المرتبطة بردود الفعل لدى لوط ، لا وجود لها في القصتين الأخيرتين الواردتين في سورتي «الحجر» و «الذاريات» ... و هي ليست تفصيلات خارجية أو ثانوية الأهمية ، بل تتّسم بذروة الأهمية و خطورتها لأنـّها تكشف عن جملة دلالات ، منها: الشدّة النفسية التي بلغت بمداها ما لا نتوقع الأشدّ من ذلك ، و منها: الدلالة المرتبطة ـ كما ألمح النبيّ (صلى الله عليه وآله) في نصّة التفسيري ـ من أنّ اللّه تعالى كان له الركن الذي قد آوى إليه ، فضلا عن أنّ القوة التي تمنّى أن تصله قد اعتمدها عند اللّه تعالى ، و هكذا ...
وممّا يلفت النظر حقاً أن نجد في النصوص القرآنية الكريمة عبر أكثر من سورة أنّ كلاّ من إبراهيم و لوط (عليهما السلام)يجسّدان بطلين لقصة واحدة أو لقصتين لا تنفصل إحداهما عن الاُخرى ، أو لبطلين كأنّهما متلازمان يستدعي أحدهما الحديث عن الآخر ...
طبيعيّاً أنّ كلاّ منهما يستقل عن الآخر في قصص اُخرى ، فإبراهيم يتكرر بطلا لقصص متنوّعة لاحظنا بعضها في قصته مع الطيور الأربعة ، و مع نمرود ، و قصص ترتبط ببناء الكعبة ، و ... و قصص سنلاحظها في سور لاحقة مثل قصته المعروفة التي انتهت إلى أن تتحوّل النار عليه برداً و سلاماً ... إلى آخره.
و أمّا لوط فإنـّه يرد في سلسلة القصص المتنوّعة التي تعرض لمصائر الاُمم الممزّقة البائدة ، مثل مجتمع نوح ، و هود ، و صالح و شعيب ... إلى آخره ، حيث تتكرر هذه القصص أو الحكايات في سور متنوّعة بعضها يتّسع حجم القصص فيها و الآخر يضؤل إلى درجة الحكاية ، و لكنها جميعاً ترد في سلسلة متعاقبة من القصص أو الحكايات.
و المهمّ الآن هو ، أن نتناول قصص لوط و إبراهيم في سياقهما المشترك الذي أشرنا إليه ، حيث يتلخّص السياق المشترك بينهما في سور مثل سورة هود ، الحجر ، الذاريات ... إلى آخره. و حيث يمكن تلخيص ذلك في أنّ الملائكة ذات يوم تفد على إبراهيم (عليه السلام) و هو مُنكِرٌ لهم ، ليبشّروه و امرأته و هما كبيران بمولود ، ثمّ يعرفهم و يخبرونه بأنـّهم ذاهبون إلى مجتمع لوط لإنزال العذاب عليهم و إبادتهم بما في ذلك امرأة لوط ، عدا أهل بيته و ذرّيته ، و فعلا يتّجهون إلى لوط (عليه السلام) و هو منكرٌ لهم أيضاً و يعرّفونه أنفسهم بعد أن يتشبّث مجتمعه المنحرف بهؤلاء الملائكة الذين اُرسلوا بهيئة متنكّرة في هياكل بشرية مُرد ، و يبادون في نهاية المطاف ...
إذن قصتا إبراهيم و لوط تردان غير منفصلة إحداهما عن الاُخرى ، بحيث يستدعي أحدهما الآخر بالنحو الذي ألمحنا سريعاً إليه. و السؤال الملحّ جداً هو:
ما هي الأسرار الكامنة وراء هذا الاتحاد بين القصتين أو البطلين ، مع أنّ أحدهما يرتبط بـ بشارة و الآخر ضدّ ذلك هو العذاب أو الميلاد و الموت ، ميلاد الفرد و موت المجتمع ، ميلاد اسحاق و من ورائه يعقوب ، و موت اُمّة بأكملها و هو مجتمع لوط.
ترى ما هي الأسرار الكامنة وراء هاتين المهمّتين للملائكة: الولادة و الإبادة؟ و نحن نطرح هذا السؤال الملحّ نظراً لمواجهتنا عنصراً قصصيّاً ينطوي بطبيعته السردية على ما هو مثير و مدهش وحافل بعناصر المماطلة و التشويق و المفاجئات ... إلى آخره ، ممّا يطبع العنصر القصصي في القرآن الكريم و سواه و اختلافه عن العناصر غير القصصية ممّا تنتمي إلى الأشكال التعبيرية الاُخرى .
المهمّ من جديد نتساءل: ما هو السرّ الكامن وراء الاتحاد بين قصتين أو بطلين يداعي أحدهما الآخر مع ملاحظة أنـّهما لا يشتركان البتة في الموقف و الحدث و البيئة؟
إنـّه من المتعذّر بأن نفسّر هذا الجانب تفسيراً تامّاً أو صائباً بقدر ما نخضع ذلك ما وسعنا إلى الاحتمال الفنّي فحسب ، أي أنّ التذوّق القصصي الصرف ، و هو أمرٌ يكشف بطبيعة الحال عن الإمتاع الذي تتميّز القصة القرآنية به ، و لا نعلم فيما إذا كان المتلقّون ـ قرّاء القصة القرآنية المذكورة ـ سوف يحرصون بأجمعهم على معرفة سبب تواشج هاتين القصتين أيضاً؟
إذن لنتحدّث عن الاحتمال الفنّي للظاهرة المذكورة ... و لعلّ الملحظ الأوّل لهاتين القصتين هو: القرابة التي تطبع البطلين المذكورين ، حيث تذكر النصوص المفسّرة بأنّ لوطاً (عليه السلام) هو ابن اُخت إبراهيم (عليه السلام) و هو أمرٌ قد نجد له مماثلا في بعض
القصص ، و منها ما لاحظناه مثلا في قصص مريم (عليها السلام) و ما سبقها من أبطال ينتمون إلى الاُبوّة و البنوّة مريم و عيسى (عليهما السلام) ، زكريا و يحيى(عليهما السلام) ، و أيضاً ما نلحظه في قصص لاحقة تتصل بسليمان و داود (عليهما السلام) مثلا ... و هكذا . لكن الملاحظ فيها جميعاً هو ليس البُعد القرابي ـ النسبي فحسب ، بل الاشتراك في السمات
و الأحداث و المواقف و البيئات ، حتى أنّنا لنجد من السمات المشتركة ما يتجاوز العشرة منها ، بينما لا نجد في قصتي إبراهيم و لوط (عليهما السلام) من المشتركات عدا القرابة
المشار إليها ، بل نجد عكس ذلك ، أي التضاد أو التباين ... إلى آخره.
المهم ، أنّ أحد الاحتمالات الفنّية للقصتين المتقدّمتين هو: عنصر القرابة.
و أمّا ثانياً ، أي الملحظ الآخر الذي قد يقف وراء الاتحاد المذكور بين القصتين و بطلهما ، هو: معاصرة إبراهيم و لوط ، حيث أنّ وجودهما حيّين يمارسان مهمّتهما العبادية في الحياة مسوّغ آخر بدوره ، و لكنه مسوّغ يرتبط بأهمّ علاقة تنتظمها.
و هي ثالثاً: أنّ لوطاً (عليه السلام) هو أوّل من آمن بإبراهيم (عليه السلام) ، فصِلة لوط بإبراهيم من حيث كونه يرتبط موقفيّاً بإبراهيم له أهميته الكبيرة من حيث وثاقة العلاقة بين البطلين.
رابعاً: يمكن الذهاب إلى أنـّهما يتماثلان في قلّة أتباعهما المؤمنين ، حيث أنّ إبراهيم كان وحده اُمّة و مبلّغاً ، و لوطاً بدوره كان وحده و بعض ذويه قد سلموا من الاستئصال.
خامساً: تماثلهما في المهاجرة حيث أنّ إبراهيم و لوطاً قد هاجرا من مكانهما إلى آخر بحسب ما صرّح القرآن الكريم به عبر قوله تعالى:
﴿وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ﴾
سادساً: مجيء الملائكة لإبراهيم متنكّرين ، و كذلك إلى لوط.
سابعاً: مجيئهم المصحوب بمهمّة خاصة لكلّ منهما ، حيث تتّسم المهمّة بحدث إعجازي الإنجاب في مرحلة الكبر و الجزاء الاجتماعي المتمثّل في جعل الأرض سافلها عاليها و طمس الأعين ... إلى آخره.
ثامناً: أنّ نفس مناقشة إبراهيم (عليه السلام) للملائكة في إخبارهم إيّاه بمهمّتهم لإبادة
مجتمع لوط يكشف عن الاهتمام الذي يوليه إبراهيم ـ و هو الخال للوط ـ حيث يعنيه أمر لوط لا لأنـّه ابن اخته و إلاّ فإنّ إبراهيم تخلّى عن عمّه آزر عقائدياً ، بل لأنّه المشارك له في الإيمان برسالة السماء.
إذن هذه الأسباب و سواها لعلّها تفسّر لنا جانباً من الأسرار الكامنة وراء اتحاد البطلين و قصتهما ، و إن كنّا حتّى هذه اللحظة نتطلّع إلى معرفة السبب الأشدّ وثاقة بالموضوع دون أن نصل إليه ...
على أيّة حال ، لندع هذا الجانب و نتحدّث عن البناء الفنّي و الفكري للقصة أو القصتين المتداخلتين ... و نكتفي من ذلك بالقصة الواردة في سورة «هود» دون سواها تبعاً لما سلكناه من منحىً دراسي يأخذ تسلسل السور بنظر الاعتبار ، إلاّ في حالات خاصة نجد فيها أنّ تناول هذه القصة أو تلك يحمل مسوّغات فنّية دون سواها ...
و المهم أن نشير إلى جملة نقاط في هذه الحقل ، منها أنّ ثمّة تفصيلات نجدها في قصة إبراهيم و لوط في سورة «هود» تختلف عن التفصيلات التي نجدها في سور اُخرى ، فقد تعرض القصة هناك ما لم تعرضه في سورة اُخرى ، و قد تعرض هناك في السور الاُخرى ما لا نجده في السورة التي نحن بصددها .
و لكن في الحالات جميعاً يظل الحديث عن البناء الفني و الفكري هو المستهدف في الدراسة. كما ينبغي لفت النظر إلى نقطة اُخرى لها اهميتها ، و هي أنّ قصص إبراهيم و لوط لا تتّحد في عرض المواقف أو الأحداث جميعاً ، بل نجد اختلافاً ملحوظا في ذلك ، فمثلا نجد في سورة «هود» أنّ القصة تبدأ بهذا النحو:
﴿وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى﴾
أي بشارتهم بالمولود ، بعد ذلك تقول القصة:
﴿فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوط﴾
حيث يستكشف القارئ بأنّ الملائكة بشّرت إبراهيم (عليه السلام) أوّلا بولادة إسحاق ،
ثمّ جادل الملائكة في قوم لوط ، و لكن القصة ذاتها تقول:
﴿فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ﴾
﴿وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ...﴾
فهنا يجد قارئ القصة بأنّ الملائكة الذين جاؤا متنكرين بزيّ البشر ، حيث قدّم لهم إبراهيم عجلا سميناً و لكنهم لم يأكلوا منه ، و حينئذ خاف منهم ، و لكنهم طمأنوه قائلين:
﴿لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
و هذا يعني أنّهم أخبروه أولا بمهمتهم حيال مجتمع لوط ، ثمّ بشّروه بالمولود.
إذن في القصة ذاتها ما يوحي بأنّ البشرى بالمولود هي المتقدّمة موقفاً ، ثمّ الإخبار بقضية لوط و مجتمعه ، و أيضاً العكس هو الموحى أيضاً ، أي الإخبار بلوط و مجتمعه أوّلا ، ثمّ ببشارة الولد ...
و الأمر نفسه نجده في سورة «الذاريات» حيث قالت القصة:
﴿قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلام عَلِيم﴾
حيث أنّها صريحة في أنّ البشرى سابقة على التلويح بالعقاب ، و لعلّ القصة الواردة في سورة «الحجر» أشدّ وضوحاً حينما قالوا:
﴿لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم ...قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾
﴿قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْم مُجْرِمِينَ ...﴾
حيث نستخلص من هذه القصة و سابقتها أنّ البشرى بالوليد جاءت أولا ، ثمّ الإرسال إلى قوم لوط ... من هنا نتساءل: لماذا ـ إذن ـ نجد في القصة الواردة في سورة «هود» أنّ العرض القصصي يوحي و كأنّ الملائكة تحدّثت أوّلا عن مجتمع لوط ، ثمّ البشرى بالوليد؟ و الأشدّ إثارة هنا ، هو أنّ بعض النصوص المفسّرة ذهبت إلى أنّ امرأة إبراهيم حينما ضحكت إنّما كان ذلك ليس بسبب بشارتها بالوليد ، بل كان ضحكها تعجباً من غفلة قوم لوط، أو لامتناعهم عن الأكل ، أو لأنّها فهمت أنّ لوطاً سيكون بمنجىً من العذاب ... إلى آخره ، إلاّ أنّنا لا نميل إلى هذه التفسيرات لجملة أسباب ، منها: أنّ الضحك لا يتّسق مع الإخبار بالعذاب المستأصل ، بل يتّسق مع البشارة بمولود لايخطر ببال المرأة العجوز ، هذا بالإضافة إلى أنّ نصوصاً تفسيرية عن أهل البيت (عليهم السلام) تعبّر بوضوح من أنّ الضحك كان بسبب البشارة و ليس التعجب من غفلة قوم لوط ، و الأمر هو تقديم و تأخير ، لعلنا نستطيع أن نبيّن أسرار ذلك عندما نتناول البناء الفنّي للقصة.
إنـّه من الممكن للقارئ ألاّ يقيم وزناً لما نهتم به من معرفة سبب الضحك أو معرفة أنّ البشرى كانت بالمولود أولا أو بإبادة مجتمع منحرف ، و لكننا نهتم بذلك لأنّ النص القرآني الكريم لا يقدّم موقفاً أو واقعة تخلو من هدف إلاّ و يحملنا على معرفة السرّ الكاملن وراء ذلك، نظراً لأنّ الإحاطة بالنكات المتنوّعة و العميقة لها إسهامها في إثراء المعرفة العبادية بعامّة.
على أيّة حال نتحدّث عن البناء الفنّي و الفكري للقصة ، لنستخلص في الآن ذاته ما تتضمّنه من القيم الفكرية المستهدفة.
إنّ أول حدث أو موقف يواجهه قارئ القصة هو:
﴿جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ﴾
القارئ يعرف سلفاً أنّ الرسل هم الملائكة لأنّ النبيّ يتعامل مع قنوات الغيب ، ... بيد أنّ إبراهيم لا علم له بذلك ، بدليل أ نّه بعد أن سلّموا عليه و سلّم عليهم (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْل حَنِيذ) لذلك لو كان يعلم أ نّهم رسل اللّه تعالى لما قدّم لهم الطعام لأنّ الملائكة لا تجربة لهم في الطعام ... القصة بطبيعة الحال لا تنقل لنا هذا الكلام ، بل تدعنا ـ نحن قرّاء القصة ـ نُساهم في تفسير مواقفها و أحداثها ، ... لكن الأهم من ذلك جميعاً هو العرض المضبّب الذي نواجهه من بداية القصة ... أليس من حق القارئ أن يتساءل: لماذا جاءت الرسل إلى إبراهيم؟ هذا أولا.
ثانياً ما هي البشرى التي ذكرتها الحكاية ، هل هي مرتبطة بشخصه أم بمجتمعه؟ مع ملاحظة أنّ البشرى قد يبلغ مداها الآلاف من الحوادث أو المواقف.
في غمرة هذه الضبابية التي تلفّعت القصة بها نواجه ضبابية أشدّ حينما يقدّم إبراهيم الطعام لهم ... فإذا كانوا ملائكة فما معنى تقديم الطعام إليهم؟ وإن كانوا بشراً و هو ما يلتئم مع ظاهرة الطعام ، فلماذا سمّاهم النص القصصي رسل اللّه؟
صحيح أنّ الرسل هم بشر ، و لكن هل نتعقّل إمكانية أن يبعث اللّه تعالى مجموعة من الأنبياء ينزلون ضيوفاً على إبراهيم؟ طبيعيّاً أن يستكشف القارئ بوضوح أنّ الرسل هم ضيوف ـ كما قلنا ـ بمكان ...
و لكن المفاجأة القصصية تزيد القارئ ضبابية حينما يصدم بعملية ، هي عدم أكلهم للطعام. هذه الصدمة أو المفاجأة المضبّبة تزيد الموقف ضبابية حيث يختلط على القارئ و يلتبس عليه و يحيا في غابات مكثّفة من التيه متسائلا: إنّهم إذن بشر لا ملائكة ، بدليل أنّـه(عليه السلام) قدّم لهم طعاماً ، و لكن لماذا لم يتناولوه مع أنـّهم جاؤا ببشارة لصاحب المنزل؟ القارئ إذن لا يهتدي إلى شيء ، و هنا تجيء المماطلة و التشويق و المفاجآة تتراكم لتفصح أو لتكشف لنا ما غطّى اُفق قراءتنا عن ضباب ، و لكنه نسبي لا كلّي حيث أنّ الضبابية لا تزال تضرب بأجنحتها على الاُفق ...
و أول تجلية لضبابية الموقف هي: أنّ إبراهيم (عليه السلام) كشف للقارئ بأنـّه ليس على
إحاطة البتة بهؤلاء الضيوف ، لذلك نكرهم و توجّس خيفة منهم عندما وجد أن أيديهم لا تصل إلى طعامه :
﴿فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾
إذن ماذا يستخلص قارئ القصة هنا؟ و ما هي المفاجأة؟ يستخلص بأنّ ضيوفاً نزلوا عنده بدليل تقديمه الطعام ،و الضيوف كما قلنا بشر في تصورّه للدليل ذاته ...
و لكن أما من حقّ إبراهيم (عليه السلام) أن يسيطر عليه الخوف حينما يفاجأ بأنّ البشر أو
الضيوف لا يأكلون الطعام ، مع أنّ الأعراف الاجتماعية تقضي بضرورة تناول الطعام بنفس الضرورة التي تحكم على صاحب الدار بتقديم الطعام إليهم.
و الواقع أنّ خوف إبراهيم ينعكس حيرة عند قارئ القصة ، لأنّ قارئ القصة أساساً عرف بأنّ ضيوف إبراهيم ليسوا من البشر ، إلاّ أنّ إبراهيم (عليه السلام) بسبب أنـّه نكرهم و توجّس منهم خيفة جعل القارئ متحيراً ليس بسبب أنّ الرسل لم يتناولوا الطعام ، بل لتوجّسه خيفة منهم ...
طبيعيّاً قد يستخلص القارئ سريعاً بأنّ إبراهيم مادام قد خفي عليه أنـّهم ملائكة اللّه تعالى ، حينئذ سوف تضطرب أعماقه عندما يجد أنّ ضيوفه ليسوا من البشر العاديين ، مع ملاحظة أن القارئ سوف يتساءل: لماذا الوجل؟ فإذا كان تصوّره أنـّهم ملائكة و ليسوا بشراً ، حينئذ فإنّ الأمر لا يتطلّب وجلا ـ و هو المتعامل مع الغيب ، بل هو خليل اللّه تعالى ـ لذلك يظلّ القارئ فريسة توقّعات و تفسيرات جمّة لا يهتدي من خلالها إلى شاطئ اليقين ، طبيعيّاً أنّ النصوص التفسيرية سوف تضطلع بحلّ المشكل ، و لكننا بصفتنا قرّاء للقصة فإنّ القصة ذاتها تدعونا لأن نمارس عملية الكشف لفراغاتها.
إنّ النصوص التفسيرية تُلقي إضاءات متنوّعة على الموقف ، إنّها توضّح بأنّ إبراهيم (عليه السلام) كان مضيافاً يحبّ الضيوف و يهتم بشؤونهم و لذلك أسرع بتقديم العجل لهم ، و لكن لمّا وجدهم لاتصل أيديهم إلى الطعام حينئذ سيطر عليه الخوف و ذلك بسبب تصورّه أنـّهم جاؤا لممارسة مهمّة تقترن بنزول البلاء مثلا ، خاصة أنّ الأعراف الاجتماعية عصرئذ كانت إذا أكلت الضيوف من الطعام ، حينئذ لا تصدر عنها أيّة إساءة لمضيّفها لأنـّها أكلت من طعامه ... فإذا امتنعت فهذا يعني أنّ الضيوف سوف يمارسون سلوكاً غير متعارف ، أو شرّيراً مثلا. كما تُقرّر هذه النصوص التفسيرية إمكانية أن يكون خوفه من أنهم ليسوا بشراً ، بل من جنس آخر غير محدد جاؤا لبلاء ما؟ وتقرّر نصوص اُخرى أنّه علم أنـّهم ملائكة ، و أنـّهم جاؤا لكي ينزلوا بالبلاء على مجتمع إبراهيم.
و نصوص اُخرى تزعم بأنه خيّل إليه بأنـّهم لصوص ... إلى آخره.
هذه النصوص التفسيرية تلقي إنارات متنوعة على الموقف ، و لكنها من الجانب الآخر ينطوي بعضها على تفسير غير قابل البتة للتسليم به ، كذهاب البعض إلى أنـّه (عليه السلام)عرف أنـّهم ملائكة جاؤا لإنزال العذاب على مجتمعه ، حيث لا يمكننا التسليم بهذا مادام قد قدّم لهم الطعام ، حيث أنّ الملائكة لا يفعلون ذلك ، و لعلّ الإنارة التي ألقاها النص المفسّر ، هي إمكانية أن يكون الخوف هو نزول البلاء على مجتمعه أو مجتمع سواه ، ممّا يشكّل لديه هاجساً يهتمّ به ... و لكن إذا تجاوزنا النصوص التفسيرية و تابعنا النص القصصي ، حينئذ نجد أنّ الضبابية تنقشع قليلا عندما يُفاجأ و نُفاجأ نحن أيضاً بالعبارة الحوارية القائلة:
﴿لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
إذن الإنارة تفضي بالقارئ ـ و بإبراهيم (عليه السلام) قبل ذلك ـ إلى أن يفهم بأنّ المجموعة المتنكرة بزيّ البشر هم ملائكة أرسلهم اللّه تعالى إلى قوم لوط ...
طبيعيّاً هذه الإنارة سوف تجعل قارئ النص مستجيباً لنمط آخر من الاستجابة هي: الاستجابة المفرحة المتمثّلة ببشارة المولود ، حيث يقرّر العرض القصصي في سورة الحجر (قالُوا: لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم) إذن ، نكرر بأنّ قارئ القصة في سورة «هود» سوف يستجيب باستجابة تقترن بنزول عذاب على المنحرفين ، بمعنى أنّ غضب اللّه تعالى قد نزل على القوم ، بخلاف استجابته المسرّة المبشرة بالمولود ...
لكن لندع الإنارة المتقدّمة ، و نواصل حركة القصة و تموّجاتها و إيقاعاتها المتنوّعة التي تحفل بإثارات ممتعة ، و لكنها مشفوعة بشيء من الضبابية الممتعة أيضاً ...
* * *
يمكننا أن نذهب بأنّ ما عرضناه للآن يمثّل القسم الأوّل من حكاية إبراهيم (عليه السلام)
متمثّلة في المناخ المضبّب الذي وجدناه في حادثة الضيوف المجهولين ... صحيح أنّ القصة قد اعتمدت الاستباق الزمني في استهلالها عندما قالت بوضوح:
﴿وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى﴾
حيث وضعت القارئ في مناخ مسرّ و ليس مأساوياً هو ، مجيء الرسل بالبشارة إلاّ أنـّها بدأت بتضبيب الموقف بعد أن ارتدّت الاسترجاع الزمني إلى أول الموقف و هو الذرية ، ثمّ إنكار إبراهيم (عليه السلام) ثمّ «الخوف». و المهم الآن أنّ القسم المشوب بالضبابية التامّة قد انقشع الآن مع القسم الآخر من الحكاية و هو إخبار الملائكة إبراهيم بالمهمة الملائكية ، أي الإرسال إلى قوم لوط بما واكب ذلك من الاستجابة الصادرة عن امرأة إبراهيم (عليه السلام)عبر قوله تعالى:
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾
ثمّ بالبشارة بإسحاق و يعقوب بعده ، ثمّ الاستجابة الجديدة الصادرة عن امرأة
إبراهيم أيضاً عبر قوله تعالى:
﴿قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنـَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾
ثمّ إجابة الملائكة:
﴿أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾
ثمّ ذهاب الخوف عن إبراهيم و مجيء البشارة ، ثمّ مجادلة إبراهيم بالنسبة إلى قوم لوط. هنا يتضبّب الموقف من جديد عندما ترسم القصة موقف إبراهيم بأنـّه مجادلة حيث لايستطيع القارئ أن يتبيّن معالم هذه المجادلة و محورها بقدر ما يفهم بعد ذلك بأنـّه يعترض أو يستفسر ـ على أحسن تقدير ـ عن بعض القضايا.
إلاّ أنّ القصة تضع القارئ بعدها في شيء من الإنارة المضببة و هي ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ﴾. و هذا هو التعقيب الإلهي على موقف إبراهيم المجادل ، و لكن المحاورة تعود بين إبراهيم و الملائكة ، أو بالأحرى أنّ القصة قطعت محاورة إبراهيم و عقّبت متدخلة ثمّ واصلت المحاورة متمثّلة في إجابة الملائكة لإبراهيم:
﴿يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾
﴿وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُود﴾
و بهذا تنتهي حكاية إبراهيم ، لتجيء حكاية لوط ... لكن قبل أن ننتقل إلى تحليلنا و تفسيرنا لحكاية لوط ، يتعيّن علينا أن نتناول الصياغة الفنّية للقسم الثاني من حكاية إبراهيم ، متمثلة ـ كما مرّ ـ في الاستجابتين الصادرة عن إبراهيم و امرأته ، و قبل ذلك: لماذا ربطت الملائكة بين خوف إبراهيم و إزالته و بين إخباره بأنـّهم مرسلون إلى قوم لوط؟ ثمّ ـ و هنا موقع الدهشة الفنّية ـ تفسير الضحك لدى امرأة إبراهيم ، و من ثمّ تعجّبها من الإنجاب ... إلى آخره.
هذه الظواهر مع وضوحها تظل ملفّعةً بغموضها أيضاً ، حيث أنّ الوضوح يتمثّل في عملية الإرسال و عملية الإنجاب ، و قبلهما معرفة أنّ الضيوف هم رسل اللّه تعالى و أمّا الغموض فيتمثّل في تحديد البشارة و في أسبقيتها ، و ضحك امرأة إبراهيم (عليه السلام)و مجادلة إبراهيم في قوم لوط ... اُولئك جميعاً أي: الوضوح و الضبابية ستكشف لنا بناء الاُقصوصة جمالياً و ما ينتظم ذلك من أسرار فنّية.
إنّ أول سؤال يثار في هذا الحقل هو: هل إنّ الملائكة بشّروا إبراهيم بإنزال العذاب على قوم لوط ، أم بالمولود الجديد ، أم بهما؟ و إذا كان الأمر كذلك أو لا ، فهل بدأت البشارة بالولادة أم الإبادة؟ و قد سبق أن أشرنا أنّ قارئ القصة إذا كان مستعجلا لاستكشاف ما هو مهمّ في نظره ، حينئذ سيعترض قائلا: لماذا يتناول الناقد الأدبي ظاهرة أيهما أسبق: الولادة أم الإبادة؟ ما هي فائدة ذلك؟ أليس المهمّ هو معرفة الدارس أو الناقد أو القارئ ، بأنّ الملائكة جاؤا بمهمّتين ، إحداهما: البشارة بالمولود ، و الاُخرى: إنزال العذاب على قوم ، و ما عدا ذلك فلا فائدة من معالجته؟ إلاّ أنّنا نجيب القارئ بما يلي:
القصة القرآنية لا تصوغ موقفاً أو واقعةً من أجل الإمتاع الجمالي وحده ، بل تردفه ـ و هذا هو الأهم ـ بالإمتاع الدلالي. و عندما تنتخب في قصة ما إبراز الولادة و في اُخرى إبراز الإبادة ، و في ثالثة تزاوج بينهما بحيث لا يتبيّن القارئ ما هو المهم ، و ما هو الأهم ، و ما هو الهدف من ذلك ، عندئذ نستنتج بأنّ المسألة ليست عملا عابثاً و العياذ باللّه ، بل لا مناص من محاولة التفسير لهذه الصياغة الجمالية ...
إذن لنحاول إلقاء الإنارة على ما تقدّم ...
بالنسبة إلى أيّهما أسبق: بشارته بالولادة أم الإبادة ، يحسن بنا أن نعرض العبارة القصصية ذاتها:
﴿قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
النص هنا صريح بأنّ الملائكة قالوا: أوّلا بأنّ مهمّتهم هي الإرسال إلى قوم لوط. هنا بعد أن طمأنوه على هذه المهمة ، عرض النص استجابة امرأة لوط ... إنّ دخول امرأة لوط بطلةً في القصة لم يأت جزافاً ، بل لابدّ له من الاضطلاع بوظيفة فنّية هي إلقاء الإنارة على الموقف و الحدت ، فماذا نستخلص من دخول الإمرأة بطلة هنا؟ يقول النص:
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾
﴿قالت: يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾
﴿قالُوا : أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾
﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾
هذه المحاورة بين امرأة إبراهيم و الملائكة ، و قبل ذلك استجابتها لحدث الإرسال بــ الضحك ، ثمّ تبشير السماء ـ لا الملائكة ـ بإسحاق و يعقوب ... ماذا نستخلص جمالياً و دلالياً منها؟
و بما أنّ هدف دراستنا للقصة القرآنية هو: تذوّقها الفنّي الخالص دون الرجوع إلى النصوص المفسّرة إلاّ أنّ هذا لا يحجزنا من الرجوع إليها للإضاءة فحسب.
طبيعيّاً ثمة فارق بين أن نستوحي و نستكشف دلالات فنّية من النص ، و بين أن نفسّر برأينا متشابهات القرآن الكريم ، حيث لا مناص من الرجوع إلى ما يفسّره المعصوم (عليه السلام) ، و لذلك نلجأ إلى النصوص المفسرة بين الحين و الآخر لهدفين:
أحدهما: أنّ المتشابه لابدّ من الرجوع إلى النصوص المفسرة حياله.
و الآخر: أنّ الظاهر أو المحكم أو النص غير المقترن بإمكانية وجود دلالة غائبة خارجة عن دلالته اللغوية. و حيث نتجه إلى استكشاف الوظائف الفنية لموقف امرأة إبراهيم حيال طمأنة الملائكة إبراهيم بعدم الخوف ، و أنّ المسألة ترتبط بقدومهم لإنزال العذاب على مجتمع لوط.
هنا لابدّ من التنبيه قبل أن نتحدّث عن الوظائف الفنّية للبطلة إلى أنّ المجيء الصرف إلى منزل إبراهيم لا معنى له إذا كان الهدف هو مجرّد إخباره بأنّ مجتمع لوط سوف يباد عدا ابن أخيه لوط و ذويه ، فلابدّ إذن أن يقترن مجيء الملائكة بوظيفة تخصّ إبراهيم و ذويه ، أي امرأته ، و هو: البشارة بالإنجاب ، حيث يتعلق الإنجاب بهما ، و لذلك تجيء البطلة امرأة إبراهيم أمراً لا مناص منه من الزاوية الفنّية ، بل إنّ اهتمام المرأة بالإنجاب سيكون أشدّ من الرجل و لذلك من الزاوية الفنّية نجد أنّ النص عرض محاورة المرأة بطولها المتمثل أولا بقولها بعد أن قال اللّه تعالى:
﴿فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ﴾
حيث قالت: ﴿يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ﴾
و بقولها: ﴿هذا بَعْلِي شَيْخاً﴾
و بقولها تأكيداً عدا ما سبق: ﴿هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ...﴾
و هذا يفسّر لنا الاهتمام الأشدّ لدى المرأة بظاهرة الإنجاب ...
من هنا نتوقّع أو تزداد قناعتنا بأنّ البشارة بالمولود هي السابقة على الإخبار بإبادة قوم لوط ، حيث تهمّ الحادثة طرفي الإنجاب ، لكن نلاحظ بوضوح أنّ النص ـ كما قلنا ـ طمأن إبراهيم من خلال الإخبار بالعذاب ، ثمّ ترك حوار الملائكة ليقدّم لنا سرداً هو:
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها ...﴾
هذا يعني بوضوح أنّ البشارة جاءت متأخرة ، و هو أمر يتنافى ظاهرياً مع فلسفة دخول الملائكة ضيوفاً على إبراهيم ، إلاّ في حالة ما إذا انطلقنا من تذوّق فني خالص هو: بما أنّ إبراهيم يجسّد شخصية كبيرة أو متبوعة ، في حين أنّ لوطاً يجسّد شخصية أصغر منها و تابعة ، بدليل أنـّها آمنت برسالة إبراهيم ، حينئذ فإنّ المناسب ، هو الدخول عليه أي على إبراهيم (عليه السلام) أولا و إخباره بالموضوع بصفته نبيّاً عظيماً يعنيه ما يجري في مجتمع لوط ... و خلال ذلك يُبشّر بولادة إسحاق و من بعده يعقوب ، مع ملاحظة أنّ هذه البشارة ليست مجرّد حدوث إنجاب معجز ، بل هو إنجاب لشخصيات عبادية مصطفاة ، فإسحاق و يعقوب ليسا شخصين عاديين بقدر ما يجسّدان شخصيات نبويّة لهما فاعليتهما في توصيل
مبادئ السماء إلى الآخرين.
إذن البشارة بالوليد لها دلالتها القصصية الخطيرة و هي الوليد النبويّ و ليس العادي ، و لكن إذا قدّر لنا أن نقتنع الآن بأنّ حدث البشارة جاء متأخّراً بالقياس إلى حدث العقاب فلاِنّ الموقع الذي يحتلّه إبراهيم بالقياس إلى لوط يفسّر لنا عملية دخول الملائكة إلى بيته قبل ذهابهم إلى بيت لوط ، و لكن ثمة إشكالات ترد على هذا الاستخلاص الذي عرضناه ، من أنّ امرأة إبراهيم قد ضحكت:
﴿قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط﴾
﴿وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ...﴾
و قد قلنا ـ قبل صفحات ـ : إنّ الضحك لا يتناسب مع نزول العقاب ، بل مع حدوث البشارة ... و من الإشكالات أيضاً أنّ قصة إبراهيم و لوط في السور القرآنية الاُخرى كانت صريحة في تقدّم خبر البشارة على الإبادة ، يقول النص القصصي في سورة الحجر:
﴿قالُوا: لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم﴾
و كذلك نجد الظاهرة ذاتها في سورة الذاريات:
﴿قالُوا: لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلام﴾
إذن مع هذه الصراحة كيف نوفق بين هاتين الحكايتين و بين الحكاية الواردة في سورة هود؟ هاتان الإشكاليتان يُمكن الإجابة عنهما على النحو الآتي: بالنسبة إلى امرأة إبراهيم تقول بعض النصوص المفسّرة ـ و قد سبق أن ذكرناها و استبعدناها ـ : إنّ ضحكها كان تعجباً من غفلة قوم لوط.
و يقول بعضها: كان تعجباً من امتناعهم عن الأكل.
و يقول بعضها: إنّما ضحكت تعبيراً عن سرورها بالنسبة إلى نجاة لوط من العقاب المذكور. لكن ورد ـ كما ذكرنا ـ أنّ المعصوم (عليه السلام)ربط ظاهرة الضحك بالبشارة ، حيث علّل البعض بأنّ النص القصصي استبق و استرجع المواقف من حيث العرض ، أي قدّم و أخّر لنكات فنّية ... و مع صدور النص المفسّر من المعصوم لا نملك تفسيراً مقابلا بقدر ما يمكن الذهاب إلى أنّ الضحك من المحتمل أن يكون لسببين ، بحيث أنّ المعصوم (عليه السلام) حينما يقتصر على ذكر سبب واحد لا يعني نفيه لسبب آخر ...
و أما بالنسبة إلى تقدّم خبر البشارة على الإبادة ، فيخضع للظاهرة ذاتها ، أي من الممكن أن تحدث البشارة بالأمرين معاً ، أي: البشارة بالوليد ، و البشارة بهلاك المنحرفين ... و كذلك الأمر بالنسبة إلى قولهم لاتخف قالوها مرة ، ثمّ أتبعوها بخبر لوط ، ثمّ أتبعوها مرّة اُخرى بخبر الإنجاب ، حيث أنّ ذكر أحدهما لا ينفي وجود الآخر.
إذن نستخلص ممّا تقدم بأنّ النص القصصي حينما يقدّم حيناً خبر الإنجاب ، و حيناً خبر الإبادة ، فلأنّ السياق يتطلب ذلك ، كأن يستهدف النص لفت النظر مرة إلى أهمية الإنجاب و اُخرى إلى أهمية العقاب للمنحرفين ... و بالنسبة إلى الاُقصوصة التي نتحدث عنها في سورة «هود» نجد فيما بعد، أنّ العرض القصصي للمواقف و الأحداث و البيئات و الشخصيات يتّسم بطول و بتفصيل لا يرد في القصص الاُخرى الواردة في سورتي «الحجر» و «الذاريات» مثلا ، ففي سورة الحجر لا تتجاوز الإشارة بالنسبة إلى لوط و مجتمعه:
﴿جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾
﴿قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ﴾
﴿وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ﴾
﴿قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ﴾
﴿قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾
و في سورة الذاريات يظل العرض القصصي أقصر:
﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِين﴾
﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾
﴿فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْت مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
و لكننا بالنسبة إلى سورة هود(عليه السلام) نجد أنّ التفصيلات للعناصر القصصية أغزر و أشمل طرحاً لدلالات متنوّعة ، و لنقرأ:
﴿فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوط﴾
﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ﴾
﴿يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾
﴿وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُود﴾
إنّ هذه المناقشة أو المجادلة مع الملائكة بالنسبة إلى موقف إبراهيم من إنزال العقاب على مجتمع لا ذكر له في القصتين الواردتين في سورتي الحجر و الذاريات ... و هذا وحده كاف للإفصاح عن الأهمية التي تستهدفها القصة لحادثة نزول العذاب على المجتمع المنحرف ... و لكن بالإضافة إلى ذلك نجد التفصيلات الآتية:
﴿وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾
﴿وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾
﴿وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾
﴿قالَ: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾
﴿أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾
﴿قالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ﴾
﴿قالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْن شَدِيد﴾
﴿قالُوا: يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ...﴾
لنلاحظ أنّ هذا العرض القصصي حواراً و سرداً يتضمّن تفصيلات لا وجود لها في القصص الاُخرى ، منها ـ وهذا هو الأهم ـ : ردّ الفعل الصادر من لوط من حيث حجم الشدائد التي واجهها من جانب ، و من حيث نمط أو نوعية الدعاء أو المساعدة التي طلبها من اللّه تعالى ... القصص الاُخرى اقتصرت على الإشارة إلى استبشار المنحرفين بضيوف لوط و ردعه إيّاهم بعدم فضحه ، و تقديم بناته و إجابتهم بعدم رغبتهم ، و أخيراً نزول العذاب. بينما نجد في سورة هود ، ما يأتي:
ساءه ، أي لوط مجيء الضيوف لأنـّه خاف عليهم من مجتمعه:
﴿وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ﴾
ضاق بمجيئهم ذرعاً حيث جاؤا في صورة مُرد و جمال.
﴿وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾
قوله:
﴿هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾
و هو دعاء يكشف عن المرارة العميقة التي يتحسّسها في أعماقه. و في هذا السياق ينقل أحد المفسّرين قول الإمام الصادق (عليه السلام) بأنّ لوطاً كان ـ و هو يصطحب ضيوفه إلى منزله ، حيث هبطوا عليه في مكان آخر ، ـ يقول بما مؤدّاه: أيّ شيء أقدمت عليه؟ كيف آتي بهم و قومي أشرار كما أعرفهم؟ و ... و من البيّن أنّ هذه المحاورة مع نفسه تكشف عن المرارة و عمق الأسى و التمزّق ... إلى آخره.
قوله:
﴿ألَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟﴾
هذا التساؤل بدوره يكشف عن الشدّة النفسية التي يكابدها.
قوله:
﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾
أي ، ليت لي قوّة استطيع من خلالها أن أقف أمامكم ... واضح أيضاً أنّ هذه المحاورة تكشف عن قلقه الكبير و تمزّقه و أساه بحيث يتمنى أن تصل إليه قوّة لمساعدته.
قوله:
﴿أَوْ آوِي إِلى رُكْن شَدِيد﴾
أي ، ليت لي مثلا عشيرة أحتمي بها من شرّ هؤلاء المنحرفين ... و في هذا السياق ورد نصّ مفسّر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) من أنّ لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد هو:
مساعدة اللّه تعالى إيّاه.
إذن هنا التفصيلات المرتبطة بردود الفعل لدى لوط ، لا وجود لها في القصتين الأخيرتين الواردتين في سورتي «الحجر» و «الذاريات» ... و هي ليست تفصيلات خارجية أو ثانوية الأهمية ، بل تتّسم بذروة الأهمية و خطورتها لأنـّها تكشف عن جملة دلالات ، منها: الشدّة النفسية التي بلغت بمداها ما لا نتوقع الأشدّ من ذلك ، و منها: الدلالة المرتبطة ـ كما ألمح النبيّ (صلى الله عليه وآله) في نصّة التفسيري ـ من أنّ اللّه تعالى كان له الركن الذي قد آوى إليه ، فضلا عن أنّ القوة التي تمنّى أن تصله قد اعتمدها عند اللّه تعالى ، و هكذا ...
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى